للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وماليته وداخليته وخارجيته، وسلمه وحربه، وهو القائد وهو المفتى وهو المعلم. . . أداره أحسن إدارة وأقومها، فاستقر الأمن، ونامت الثورات، وقعد القائمون بالمعارضة، وسكت الناقمون على بني أمية، وتصافى الشيعي والخارجي، والمصري واليماني، والأسود والأحمر، واصطحب في البرية الذئب والحمل. . . وهو يواجه بقلبه أحداث الدهر، فترتد عنه الأحداث ارتداد الموج عن صخر الشاطئ، وهو يصوغ ببيانه الحكمة العليا أدباً خالداً. . .

سمع غداة بويع بالخلافة مكرها، هدة ارتجت منها الأرض، وكان منصرفًا من دفن أمير المؤمنين سليمان فقال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة قربت إليك لتركبها، بالسروج المحلاة بالذهب، المرصعة بالجوهر، فقال: ما لي ومالها؟ نحوها عني وقربوا لي بغلتي، وأمر بها أن تباع ويدخل ثمنها بيت مال المسلمين، فقربت إليه بغلته. فركبها، وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال له: تنح عني، مالي ومالك؟ إنما أنا رجل من المسلمين.

ومشى بين الناس، راكبا على بغلته، بلا موكب ولا حرية ولا راية ولا طبل. الرجل الذي يحكم الأندلس ومراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والحجاز ونجدا واليمن وسورية وفلسطين والأردن ولبنان والعراق والعجم وأرمينية والأفغان وبخارى والسند وسمرقند. . . مشى ومشى الناس بين يديه حتى دخل المسجد، فقام على المنبر، فقال:

أيها الناس: إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأى كان مني فيه، ولا طلب له، ولا مشورة من المسلمين، أني قد خلعت بيعتي من أعناقكم، فاختاروا لأنفسكم.

فصاح الناس صيحة واحدة: إننا اخترناك ورضينا بك.

ومشى إلى الخضراء، وما الخضراء؟ جنة الأرض التي حشر إليها كل ما في الأرض من كنوز وطرف، القصر الذي أزرت عظمته بالخورنق والسدير وغمدان والإيوان، فأمر بستورها فأنزلت، وببسطها ونمارقها فطويت، وبطرفها وكنوزها فحملت، وأمر ببيع ذلك كله ووضع ثمنه في بيت المال، وأم داره هذه.

فقال الناس: إنه رجل صالح، ولكن الملك له أهل. إن الملك لا يقيمه إلا قوى أمين ابن دنيا. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>