(أنا أفكر، فأنا إذن شيء موجود، أو جوهر مفكر)، فان في استطاعتنا أن نقول - تصويباً لهذه العبارة - وبالاستناد إلى شهادة الحس الباطن التي لا ترد:(أنا أفعل، أنا أريد، أو أنا أتعقل الفعل في ذاتي، فأنا إذن أدرك نفسي كعلة، وإذن فأنا موجود، أو أنا كائن باعتباري علة أو قوة).
هذه الحقيقة الأولى التي يؤكدها دى بيران بكل قوة (حين يقول إن الذات تدرك نفسها باعتبار أنها مجهود، وإرادة، وفعل) تدلنا على أن فيلسوفنا هذا كان المؤسس الأعظم للمذهب الروحي في العصر الحديث؛ وهو المذهب الذي ساعد على تقدم علم النفس ونظرية المعرفة، العلوم الخلقية على وجه العموم، في نهاية القرن التاسع عشر. والواقع أننا إذا نظرنا بيران، سواء من الناحية الذاتية أو من الناحية الموضوعية، فإننا نجد أنه من أعظم المفكرين اللذين قادونا إلى الناحية الباطنة في الإنسان. بل ربما كان بيران أعظم فلاسفية المذهب الروحي في فرنسا. وهو بالفعل قد توفر على التوسع في المذهب الروحي الذي أقامه أستاذه (ليبنتس)، فأظهرنا على الإنسان (في حقيقة الأمر) ليس ألعوبة في اثر الأقدار، أو عبداً ذليلاً للضرورة المستبدة، بل هو ذات مريدة فاعلة، لا تستمد نشاطها وقدرتها على الفعل من الأشياء الخارجية، بل من جهدها الإرادي ونشاطها الذاتي، أعني من الإرادة)
والنفس الإنسانية - في نظر بيران - لا تتمثل باعتبارها ذاتاً فاعلة، إلا بالممارسة لقوتها الخاصة؛ ما دامت هذه الممارسة حرة غير خاضعة لأية ضرورة أو قوة خارجية، أي ما دامت غير متوقفة على قوى الطبيعة الخارجية.
وقد فرق بيران بين الإنسان والحيوان من جهة، وبين الإنسان والله من جهة أخرى. غير أنه لم يقصد بهذه التفرقة أن يقيم هوات غير معبورة بين الحيوان والإنسان، أو بين الإنسان والله. وإنما الذي اهتم به بيران وقصد إليه فعلا، هو أن يقرر تلك الحقيقة الهامة عنده، وهي أن الحياة الإنسانية بمعنى الكلمة إنما هي تلك التي تعلو على المستوى الحيواني، وما يميز الحياة الحيوانية (في نظره) هو أنها تخضع للانفعالات العمياء؛ أعني أنها لا تتميز بالحرية والإرادة والاختيار. وعلى الرغم من أن بيران لا ينزل بالحيوان إلى درجة (الآلة)، كما فعل ديكارت، فإنه يعتبر أن الحيوان يحيا دون أن يعرف ما هي حياته،