خريف الريف وربيعه يتفقان في الخصوبة والبهجة، ويختلفان في الحيوية والطبيعة. فبينا تجد ربيع أبريل ومايو موّاراً بالحياة، فواراً بالعاطفة، هداراً بالهتاف، يجعل من كل حي حركة لا تني ورغبة لا تخمد، إذ تجد ربيع أكتوبر ونوفمبر ساجي النهار، سجسج الظل، ساكن الطائر، ينفض على كل امرئ دعة الطمأنينة، وسكون التأمل، وروعة العبادة. فالمشية وئيدة الخطوات، والوقفة بعيدة النظرات، والجلسة طويلة الصمت، والشبان والشواب يتبادلون التحايا بغمز العيون وافترار الشفاه، كأنما هم وهنّ نشاوي من رحيق عجيب يعقد الألسن، ولكنه ينعش الروح، ويوقظ القلب، ويبسط المشاعر!
أي جمال أملك للنواظر والخواطر من جمال السماء الريفية وقد زينتها رياح الخريف بقزعات من الغيم الرقيق كأنها القطعان البيض ترتعي في المروج الخضر؟ هذه السماء بألوانها السحرية المختلفة التي تتعاقب عليها بتعاقب الساعات، تنطبق على أرض كرقعة الفردوس لا ترى فيها خلاء ولا عراء ولا وحشة، ولا تسمع فيها لغواً ولا تأثيماً إلا هتاف الطير الحائمة على أعذاق النخل اليانعة وسنابل الذرة النضيدة، وإلا شَدَوات الرعاة قد كوموا الحشيش أمام الماشية وتحلقوا حول النار المشبوبة يشوون عليها الأمطار والسمك، ثم يأكلون ويغنون في لذة وبهجة
عهدُنا بالريف في أيام الخريف أن يكون بنجوة من الهم وسلامة من الكآبة. فالأهراء طافحة بالحب، والمخازن مفعمة بالقطن، والغيطان كاسية بالزرع، والجيوب غنية بالمال، والنفوس رخية بالرجاء؛ ولكن ما بال فتيان القرية وفتياتها على غير ما نعهد: يمشون ساهمين، ويقفون واجمين، كأنما غاب عن كل عين حبيب، ومات في كل نفس أمل؟
ألا تراهم يا حسن يدافعون الأسى عن وجوههم ببسمات مكذوبة لا تخدع النظر عن الكمد الباطن؟
- ماذا يصنعون يا صديقي والدائن يقتضي (القسط)، والصراف يطلب (المال)، والمالك يريد (الإيجار)، والأسرة تبتغي (الكسوة)، والقطن وهو سداد هذا العوز كله يصبح عقدة المشكلة وغَلَق الأزمة؟ فثمنه البخس لا يفي بأكلاف زرعه، بَلْهَ ما يُحمل عليه من الأسباب، ويناط به من المنى