بنصيبين، وهذا لم يجد من يوصي به إليه حين أشرف على الموت إلا رجلاً بعمُّورية من أرض الروم، لأنه كما يرى صاحب نصيبين آخر من بقى على الدين المسيحي ونهجه الصحيح حين ذاك. ومعنى هذا أن الناس في ذلك الزمن لم يطيقوا الدين المسيحي، فانسلخوا منه شيئاً فشيئاُ لما طال بهم الأمد، وقست قلوبهم فما رعوه حق رعايته
وهنا أنفِّس عن نفسي بالإشارة إلى ظاهرة أحسستها من زمن بعيد وجهدت في أن أجد لها تعليلاً: هي أن الغالب على رجال الأديان عامة - حتى المسلمين - في هذا الزمن حب المال وجمعه والاستكثار منه، وعدم المسارعة إلى أفعال البر التي تقتضي البذل والإنفاق! لماذا! لا أدري، اللهم إلا أن يكون معرفتهم بالدين معرفة دقيقة، والإحاطة بما دونه المتأخرون من الفقهاء في تآليفهم، كل ذلك جعل منهم على حبل الذراع تعلات ليست من الحق في شيء، تجعل من الهين عليهم ما نحسه فيهم من إقبال على الدنيا شديد وتخلف في ميادين البذل والإنفاق!
ومهما يكن فقد كانت المسيحية وما تدعو إليه من غلو في الزهد، وكان أهلها وما فتنوا به من حب المال والشهوات وعروض هذه الحياة، ممهداً طيباً للإسلام الذي جاء والإنسانية قد بلغت رشدها فكان ديناً وسطاً قيماً لا عوج فيه، دين عرف للجسم حقه وللروح حقها، فلم يوجب التقشف ولم يحرم التمتع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، ولم يغلق أبواب الجنان دون الأغنياء كما أعلن عيسى عليه السلام، بل إنه رفع الغني الشاكر إلى مرتبة الفقير الصابر وربما فضله عليه، دين نهانا عن الغلو في طلب الآخرة ونسيان الدنيا، وبخاصة وهذه قد تكون من وسائل تلك، قاصاً علينا ما قال قوم هارون له:(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) دين لم يقل رسوله كما قال المسيح لواحد من أنصاره (بع مالك واتبعني)، بل قال لسعد بن أبي وقاص وقد استشاره - وهو عليل مدنف وذو مال كثير - فيما يتصدق به:(الثلث والثلث كثير! إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)، وهكذا نجد الإسلام يتناسب وما بلغته الإنسانية من رشد، والدين الذي استحق أن يكون خاتم الأديان بما يؤدي إلى سعادة الناس جميعاً مهما اختلف بهم الزمن
إذا كان هذا شأن العالم والمسيحية بصفة عامة، وهو شأن كان ينادي بضرورة دين جديد