احتمالا، فيقينا هكذا مدة، ثم عارض بعضنا في هذا، وسكت البعض الآخر مقتنعاً بهذه المعارضة، ولكنا في النهاية لم نجد مناصاً من الرضوخ لهذه الرغبة، والنزول على هذه الإرادة مكرهين، فلقد اتجهت إلينا الأنظار متعجبة دهشة، وكأنها تقول: علامَ التشكك والارتباك، وعلام الخوف والاضطراب وهذه البلاد لا موضع فيها لخائن الأمانة، أو ناكث للعهد، أو خافر للذمة؟!! وكأنما كانت هذه النظرات ألسنة ناطقة، لا نظرات صامتة، فسرعان ما شعرنا جميعاً بالتخاذل والخجل، ومضينا إلى حيث نريد. .
سرنا على الميناء متجهين إلى المدرسة كما أشار لنا بعض الواقفين، وميناء عنيبة جسر ممدود إلى داخل النيل، نهايته على الشاطئ الأصلي للنيل، فإذا جاء الفيضان، وارتفعت مياه النيل خلف الخزان في نوفمبر تقريباً من كل عام، وجدت الميناء عبارة عن لسان طويل جداً، ممدود حوالي ثلاثمائة متر، وعرضه متران تقريباً، فإذا ما زاد الفيضان، غمر هذا اللسان، ورست البواخر على الشاطئ الجديد، الذي يظل الماء عنده إلى أوائل مايو، ثم يأخذ في الانحسار مرة أخرى حتى يصل إلى الشاطئ القديم، فيضيق النيل كثيراً. وحول الميناء شاهدنا بضع عوامات، وعلمنا أنها كلها تابعة لوزارة الأشغال (مصلحة الميكانيكا والكهربا)، وأن منها ما يستعمل كـ (عنبر) صغير به مضخات لرفع مياه الشرب من النيل إلى محطة الطلمبات الخاصة بهذه العملية في مستعمرة عنيبة. ومنها ما يستعمل كمنازل صغيرة لغير المتزوجين، ومنها ما يستعمل للصيانة، فيكون أشبه بمصنع صغير متنقل، وهذا لا يرسو في عنيبة دائماً، وإنما ينتقل بين محطات المركز كبلانة والدكة وغير ذلك.
كان الظلام حالكا، والسكون شاملا، ولم يكن هناك أثر لشعاع من النور، وخاصة وقد صفرت الباخرة، وأطفأت مصابيحها الأمامية (الكشافات) التي لا تضيئها إلا عندما تريد الإرساء في محاط المركز. . أما عندما تسير فلا تستطيع أن تنير هذه المصابيح، لأنها بانعكاسها على الماء، واضطراب صفحة الماء، تدع الربان لا يستطيع أن يتبين طريقه، ولا يعرف كيف يسير!
مضينا نضرب في الرمال على غير هدى، لا نكاد نرفع رجلا حتى تغوص أخرى، الأمر الذي أوهن قوانا، وأضف عزائمنا، فقطعنا المسافة من الميناء إلى المدرسة في ساعة ونصف تقريباً، بينا هي لا تتجاوز الألف متر.