وصوتين عظيمين يتجاذبانه، وهو بينهما في حيرة واضحة وتردد ظاهر أو تناقض مكشوف أحيانا. فحين يقرأ عبارات أرسطو الأخاذة وتحليلاته المنظمة واعتراضاته المفحمة لا يلبث أن يرددها ويسير وراءها. وحين يسمع أفلاطون ينادي بجوهرية النفس وتميزها التام عن البدن يستولي عليه هذا النداء ويصادف هوى في نفسه وإن كان لا يتفق مع آراء أرسطو. وقد يقف موقفا وسطا بين هذين الطرفين المتقابلين محاولا الجمع والتوفيق.
يبدأ ابن سينا فيلاحظ أن الأجسام الطبيعية مكونة من هيولي وصورة. فأما الهيولي فهي تلك المادة التي يتكون منها الجسم كالخشب الذي يصنع منه الكرسي أو كالحديد الذي يعمل منه السيف. وأما الصورة فهي ما به تتميز الأجسام بعضها عن بعض وتتحدد ماهيتها وتقوم بوظائفها. فالأرض لا تفترق عن الماء بمادتها بل بصورتها، والإنسان إنسان بصورته لا بمادته المكونة من العناصر الأربعة، والسيف لا يقطع بحديده بل بحدته. وبما أن الكائن الحي جسم طبيعي فهو من مركب هيولي وصورة، والأخيرة هي التي تميزه من الكائنات غير الحية إذ أنها مصدر حياته وحسه وحركته. فالنفس إذا صورة الجسم. والصور كمالات كلها وكمالات أولية، لأن وجود الأشياء المختلفة لا يكتمل إلا بها. وليست النفس كمالا أوليا لجميع الأجسام، بل للأجسام الطبيعية فقط التي تمتاز بالحياة عن الأجسام الصناعية وتشتمل على آلات وأعضاء تقوم بوظائف متباينة. فهي كمال أولي لجسم طبيعي آلي
يخيل إلينا أن القارئ سيدرك على الفور المصدر الذي أخذت عنه هذه الأفكار. فإن ابن سينا لم يصنع شيئاً أكثر من أنه لخص الفصلين الأول والثاني من الباب الثاني من كتاب النفس لأرسطو ولم يكتف بأن يعتنق آراء الفيلسوف اليوناني، بل أبى إلا أن يردد بعض ألفاظه وتعبيراته. فلفظ (كمال) الذي يتشبث به ويبني عليه تعريفه ترجمة صحيحة لكلمة (أنتليشيا) اليونانية، وقوله أن (النفس صورة الجسم) ترجمة أخرى لتعبير أرسطي مشهور فإذا كان التعريف السابق ناقصاً أو معيباً من بعض نواحيه فالذنب في هذا لا يرجع إلى الفيلسوف العربي وحده، وإنما يشاركه فيه أستاذه اليوناني صاحب الفكرة الأولى. وإذا تركنا جانبا لفظة (كمال) أو (أنتليشيا) وما فيها من غموض فإنا لا نلبث أن نصطدم بهذه