الحيلة. ولكن إباء نفسه لم يدع له وسيلة إلى الخضوع في سبيل الحصول على الرزق. فهو لا يحني رأسا لرئيس، ولا يقارف عملا يتنافى مع كرامته، ولا يبذل ماء وجهه لقاء عرض الدنيا. يقول:
واكتساب الغنى ينظم ونثر ... فيه نقص للفاضل المشهور
أنا لفظي در النحور ومثلى ... لم يبع بالحطام در النحور
إن فقر النفوس ذل وشين ... وغنى النفس عز كل فقير
ولا يسعى إلى منصب القضاء برشوة - وقد كانت ذائعة في عصره - بل عف عن المناصب جملة لما رأى فيه رقا لنفس الحر. فيقول بعد أن طلق القضاء:
أأرجع بعد العتق في الرق ثانياً ... فلا أم لي أن كان ذاك ولا أب
ولقد كان ابن الوردي - كما ذكرنا - قاضيا على حلب نائبا في قضائها عن قاضي القضاة الكمال بن الزملكاني وكان ابن الوردي قد مدحه بقصيدة طلليه لأنه استنقذ كنيسة من اليهود بحلب وجعلها مدرسة للحديث. فقال له:
علا لك ذكر ليس يشبه ذكر ... وأحرزت فخراً ليس يدركه فخر
ثم أرسل إليه ابن الزملكاني رسولا يطالعه بنقله إلى منج. فلم يسترح إلى النقل، وألح في العودة إلى حلب، فلم يستمع له ابن الزملكاني. فانقلب ابن الوردي هاجياً شاكياً، وكانت هذه الحادثة السبب المباشر في انه كره المناصب وحياة الوظيفية، ولجأ إلى الخمول يستعيض بالاطمئنان إليه ما فقده من جاه ورزق. قال مخاطباً ابن الزملكاني:
فعندما قال الذي قاله ... رسولكم أوضح ما أعضلا
وبان لي ما يقصد الدهر لي ... لكن رأيت الصبر في أجملا
وانقطع البحث وزال المرا ... فقدموا الناقص والاجهلا
تالله لا باشرت من بعدها ... حكما ومن يرضي بهذا البلا
فضل ابن الوردي من ذلك الحين حياة الخمول على حياة الكفاح. وارتضى عيش العزلة على المخالطة. ونشد السلو بين كتبه ودفاتره، والعزاء بين أقلامه ومحابره، وراح يرفل في ثوب من الخمول، كأنه يرفل في ثوب من النسيم. وأمعن في خموله واستمرأه حتى اصبح حبيباً إليه أثيراً عنده. راضياً بيأسه. قال: