والماجن يتعلل بذكريات ليلة فاجرة ويتلمظها ويلتذ بالتفكير في فجور جديد. . . وكانوا سكوتاً لا تسمع منهم إلا أغنية الصمت التي ليس لها آخر، يقطعها بين الفترة والفترة سؤال مختصر يلقيه أحدهم بصوت خافت تتعثر كلماته وهي سائرة في الفضاء من الضجر والملل، يجيب عليه الآخر بهزة من رأسه أو بكلمة مفردة يمضغها بين أسنانه ويبتلع الحرف الأخير منها، يعود السكون كما كان!
ويفتح الباب.
ويرفع الشرطيون الأربعة رؤوسهم ينظرون من هذا المتطفل الثقيل الذي دخل عليهم في هذه الساعة، وكل واحد منهم يتمنى أن يكفيه غيره مشقة صرفه والتخلص منه، ولم يكن فيهم من ينشط لعمل ولا لحديث؛ ولكنهم لا يرون القادم حتى يطير الخمول من نفوسهم، ويدب النشاط في أجسامهم، وينسى ذو العيال هم البيت، وطالب الرشوة لذة المال، وينسى (العاشق) المحروم فتاة أحلامه، وتتعلق أبصارهم بالقادم وكأن الدهشة قد ثبتتها في محاجرها فهي لا تتحرك ولا تطرف، ثم ينظر كل في ثيابه فيصلح منها ما يستطيع، ويمد يده إلى قميصه فيحكم زيقه وإلى ردائه فيرتديه، ويقف مستعداً كأنما قد فاجأه المدير العام، ويتم ذلك كله في لحظات!
ولم يكن القادم المدير العام بل تلك الفتاة الجميلة المتكبرة التي كانت تمر بها كل يوم شامخة الأنف تنظر دوماً إلى الأمام، لا تتنازل أن تلقي عليهم نظرة واحدة. . . وكانت تترك وراءها كلما مرت عبقاً من الروعة والسحر، فقد كان جمالها من الجمال الشرس الأخاذ الذي يروع الناظر إليه ويشدهه حتى يتركه وكأنما قد أصابه دوار حلو وخدر لذيذ. . .
فإذا ابتعدت وصحوا من سكرة جمالها، عادوا إلى الحديث عنها فأنفقوا فيه نهارهم. ولقد تسقطوا أخبارها فلم يسمعوا عنها ما يريب، برغم هذه الثياب (الفظيعة) التي كانت تخرج بها، ثياب أزهى من زهر الربيع، وأرق من دين الراقصات، وأقصر من عمر الحب! غشاء من الحرير إلى ما فوق الركبتين، يبرز ما تحتهما ويصور ما فوقهما، والذراعان باديتان والشعر يتموج على الكتفين خصلاً تزري بحر العسجد وخالص الحرير.
ووقفت الفتاة تصوب فيهم نظرات متعالية ثم قالت عابسة زاوية ما بين عينيها، ضامة شفتين كزر الورد على فم لا يتسع للكلمات، لا يصلح إلا للقبل: