ولم تكن الحالة الأولى من نوعها فلهذا لم تكن فلسفة باقية بل كانت حالة عابرة غير نادرة، واستطاعت النفس أن تملك زمامها وهي إلى جوارها فلا يزال فيها هامس مسموع مستجاب يردد في غير إلحاح ولا إعنات: كلا. لست في عليين، لست في عليين!
أإذا عرفنا أسباب الحالة الأولى جاز لنا أن نقول: إنما هي ضلالة في الحس من أثر الغيم أو من أثر السوداء أو من أثر المعدة الشاكية؟
كلا. لأن معرفة السبب الذي يريك الشيء لن تنفي وجوده، كما أن شعورك بألم الآخرين من أجل القرابة بينك وبينهم لا ينفي أنهم متألمون وأن الألم موجود هناك. ثم نقترب من المحسوسات فنقول إن رؤيتك الجراثيم بالمجهر وعلمك بأن المجهر هو سبب الرؤية لا ينفي الجراثيم ولا ينقض صحة ما تراه
وكذلك الحالة الثانية لا يدحضها أن تعلم أسبابها، وهي الإشراق والصحة وامتناع الأكدار والأحزان، فإن العلم بأسباب إحساس من الأحاسيس لا يقدح في حقيقته ولا في صواب الشعور به حيث كان.
لذلك أقول إن السريرة الآدمية كالمذياع، وإن الدنيا المحزنة والدنيا المفرحة ودنيا القنوط ودنيا الرجاء موجودة لا تظهر للنفس إلا حين يصل المفتاح الى وجهته المرسومة، وإلا فهي صمت وخفاء
في النفس الإنسانية متسع لجميع العوالم، ولكنها تتهيأ لكل عالم من هذه العوالم بحالة من الحالات، أو بمفتاح من المفاتيح، فإذا هو موجود مسموع منظور محسوس، وإذا أنت لا تسمع غيره ولا تعيش في غيره، لأن إدارة المفاتيح كلها هي الفوضى التي يبطل فيها الإحساس، ويفسد فيها التعبير المفهوم، فهو إذن لغط وأصداء
إن كنت تسمع حديث القاهرة فليس معنى هذا أن حديث باريس باطل، وإنما معناه أن المفتاح في هذا الاتجاه وليس في اتجاه غيره، وحديث باريس بعد ذلك صادق عند أناس آخرين صدق حديث القاهرة، وغيره من الأحاديث
وإن كنت في دنيا من دنياوات الإقبال والتفاؤل فليس معنى ذلك أن دنيا السآمة والقنوط عدم وضلال، وإنما معناه أن المفتاح هنا، وأنه لو تحول قليلاً لأصبح هناك!!