للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

امتناع الحس لا يدل على امتناع المحسوس

وبهذا نفسر العبقرية التي ترى الأخيلة والشكول والمعاني والتوفيقات حيث لا يبصرها أحد ولا يسمعها أحد ولا يدري بها أحد، ولكنها تظل في صمتها وخفائها حتى تصادف من يدري بها ويستمع إليها، فهي موجودة له معدومة لسواه

وبهذا نفسر الصوفية التي تلمح من الخفايا ما ليس يلمحه المصاقبون والجيران، وتقترب من الآمال والمخاوف قبل أن يقترب منها المزاملون والرفقاء، وتبصر بعيني (حزام) والناس من حولها ضاحكون لا يصدقون، وإن قال لهم ألف قائل:

إذا قالت حزام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حزام

لأن ما يرى بالعين على مسيرة يوم سوف يرى بالعين على مسيرة ساعة. أما ما يرى بالسريرة فقد تكثر فيه المغالطة والمكابرة كلما اقترب واقترب حتى تتناوله جميع السرائر: أهذا الذي أنبأتنا به؟؟ لا. إنك أنبأتنا بغير هذا، ولن تزال في ضلالك القديم!!

ولنهبط من العبقرية والصوفية إلى المشاهد الملموسة في حياة الحيوان.

فأين من الناس من يشعر بأن ملامسة اليد للمنديل تترك فيه أثراً من الرائحة المحسوسة يشمها الأنف بعد أيام؟ وأين من يثبت لهم ذلك لولا أن شاهدوه وكرروا شهوده من بعض الحيوان؟؟

أفينقض (وجود) تلك الرائحة أن يقول قائل: بل ما أدركها ذلك الحيوان إلا لأنه كلب يشم بحاسة الكلاب؟

أفينقض (وجود) تلك المعاني والتوفيقات أن يقول قائل: بل ما أدركها ذلك الناظم أو ذلك الموسيقي إلا لأنه مجنون مخبول؟

فلم لا يكون الخبل المزعوم هو المفتاح الذي يوجه السريرة إلى وجهة تلك المعاني والتوفيقات؟؟ ولم ننكر (المحطة) لأننا لا نملك المفتاح وإن رأينا من يسمعها ويروي لنا ألحانها وأناشيدها في تناسق وانتظام؟

فالعالم حافل بما يحس ويشعر

حافل بالمنظورات وإن لم يشهدها كل نظر، وحافل بالمسموعات وإن لم تسمعها كل أذن، وحافل بالطعوم وإن لم يذقها كل لسان، وحافل بالحياة وإن لم تتصل بها اتصال التعاطف

<<  <  ج:
ص:  >  >>