وكان في موكب الرفات المنتصر قوم يمشون، وجوههم إلى الأرض، وأفكارهم إلى الوراء، يقولون في أنفسهم: استعنا على كبْت هذا المجد الثائر بقوة السلطان وضجة البرلمان وثورة الخزانة، فإذا كل أولئك معناه هَوَج العاصفة، ورهج الغبار، وسرف المطر؛ وإذا الشمس من فوق أولئك لا تزال ساطعة الشعاع دائبة الارتفاع لا يرتقى إليها صخب، ولا يعلق بها قَتَم! أن الموت نفسه قد إنخزلت عنه قواه فلم يستطع طمسه في عين الوجود ولا محوه من سمع الزمن. لا يزال ملء الحاضر وعدة المستقبل، ومن العناء الباطل أن يحاول الجبروت مهما طغى أن يدخله في الماضي. هؤلاء هم الجند الذين طالما أكرهناهم على أن يطاردوه في الأقاليم، ويحاصروه في العواصم، ويصادروه في الأندية، ويضايقوه في المنازل، ويحولوا بينه وبين الشعب، قد انقلبوا - بأي معجزة لا أدري - فصاروا زينة لمجدة وقوة لوفده وحرساً لمبدئه!
وكان بازاء الباشا المفكر طالب صادق الحدس ألمعي الفراسة، لا يزال على وجهه الأبلج أثر من عِصِيّ الشرطة وبنادق الجند، فرأى بين الحي المستذل الضارع، وبين الميت المتجبر الشامخ، عبرة من عبر الدهر. وحكمة من حكَم القدر؛ فهبَّ يصوغ من هذا المعنى هتافاً له ولرفاقه: ولكنه تذكر أن الوطني لا يحقد ولا يشمت ولا ينتقم، فاكتفي أن يقول للزعيم الرجيم في نفسه: لقد أدركت بعد الأوان أن المجد خير من الحطام، وأن الشعب أبقى من الحكومة! لقد بلغت كل عالٍ غير المجد، وربحت كل نفيس غير الشرف!
ذلك سعد مثال الزعامة الحق يا نواب الأمة! كان في مماته كما كان في حياته موضع القداسة منها وموطن الرجاء فيها، لأنه أول مصري حكمها بأمرها، وساسها برأيها، ونقلها من نظام القطيع إلى نظام الشورى، وحول خزانتها من المتاع الخاص إلى المتاع المشترك، وجعل العلاقة بين الأمة والحكومة (علاقة الجندي بالقائد، لا علاقة الطائر بالصائد).
كان سعد من الشعب وظل طول عمره مع الشعب. تجبر، ولكن على طغيان الثورة؛ وتكبر، ولكن على صلف المحتد. أما علينا وعلى أمثالنا من سواد الناس فكان كالأخ العطوف والوالد الحدب.
بهذه السيرة المجيدة في الحياة يقتدي أصحابه البررة؛ وبهذه العقلية السليمة في الحكم يسير