ذلك لأن الزورق كان أكثر من الناس، والرضا كان أوسع من الهمِّ، والأمل كان أطول من الحياة!
زِدْ على ذلك أن أولئك الآباء السُّعداء ما كانوا يعرفون عداوة الانتخاب ولا دعاية الأحزاب ولا مكاره السياسة ولا تهاويل الحرب؛ إلا ما كان يقع في أسماعهم الحين بعد الحين من أخبار الحروب بين العثمانلي والمسكوف!
أما فلاحو اليوم فهم كما يراهم ضئال الأجسام قصار القدود مبذوءو الهيئة، يتبيّن الناظر في وجوههم لوائح المرض، وعلى مظاهرهم دلائل الفقر؛ ثم يتمثلهم وهم في طواقيهم الحقيرة وجلابيبهم القصيرة، مسوخاً من تشويه الطبيعة ينسجم فيها خبث الطوية مع قبح الصورة!
لم يرث قروي اليوم عن قروي الأمس إلا الجهل. أما سلامة الصدر وسماحة النفس وعفة الطُّعمة، فيقولون إنها ارتفعت مع البركة من أرض القرية. فالفلاح يكدح ولا ينجح، ويسعى ولا يبلغ. لأن عدد الناس زاد إلى الضعف، وموارده هو ظلت على الضيق؛ وتشوَّفت نفسه إلى متاع الدنيا ويده من محصول عمله أو ملكه صِفْر لشره المرابي وطمع المالك، فاضطر إلى أن يساعد الجهل بالحيلة، ويرفد الحلال بالحرام، ويمزج الطيب بالخبيث؛ وذلك يأخذ من راحته وصحته وخلقه ودينه ما لا يعوضه طب الطبيب ولا وعظ الواعظ.
والفلاح لإخفاقه الغالب وحرمانه المتصل ينفِس على الناجح ويحقد على الغني. ولعله يعاني من حُمَّى الحسد أضعاف ما يعاني من تبريح العلة!
ولقد ركبه الغرور باستفحال الجهل فيه، وألهبه الطمع بإلحاح الحرمان عليه. والجهل إذا طغى خيَّل لصاحبه أنه العلم؛ والحرمان إذا استمر زيَّف في ذهن المحروم معنى الحياة، والشر إذا دأب على معاندة الطبع أفسد في نفس الشرير صلاح الفطرة. فالفلاح الزور ويعتقده الحق، ويفعل المنكر ويظنه المعروف، ويعمل مع الطبيعة في استثمار الأرض ولا يتفق معها، ويعتمد على الله في اكتساب الرزق ولا يتصل به!
والفلاح التام الجهل كالحضري الناقص العلم، كلاهما ضحية من ضحايا الانتقال الاجتماعي في هذا العصر؛ لأن القروي المغرور يحاول أن يكون مدنيِّا، والمدني المفتون يريد أن يكون أرستقراطيِّا، فيقعد بهذا وذاك فشل القدرة دون الغاية، فيعيشان عيش المسيخ المشيَّأ لا يصلح أن يكون في نسيج الكون لحُمةً ولا سَداة.