غير متوقف ولا متلعثم، وقد قال لي: انه ربما مضت الأيام على ذلك الحِران، مع انه يعلم مستيقنا إن الفكرة كانت قد اختمرت واستوت وتهيأت له من قبل أن يحمل القلم بأيام، وانه كان يظن انه لن يحمل قلمه حتى يراه قد انساب انسيابا لا يعوقه شئ، فإذا فرغ من كتابة ما أراد لم يجد انه زاد قليلا ولا كثيرا عما كان فكر فيه وعزم على كتابته. فأي سر هذا الذي ينطوي عليه القلم حتى يكون هو المتصرف الذي لا يرد لما أراده أمر؟ قد تقول: انه الحالة النفسية التي يكون عليها الكاتب؛ وقد تقول: إنه الجو الذي تعيش فيه الكلمات التي ينبغي استنفارها من مكامنها؛ وقد تقول أشياء كثيرة من هذا وأمثاله، ولكن يبقى انك لا تكاد تميز بعد الكتابة شيئا من الاختلاف عما كنت قد فكرت فيه وأدرته في نفسك وعرفت انه قد أطاع لك، فمن أين جاء هذا التوقف العجيب الذي تعتاده بعض الأقلام؟!
وأنا قد جربت نفسي، فرأيتني إذا أردت أن اكتب أحيانا شعرا يدور في قلبي ويلح على خاطري، فأمسكت أي الأقلام وقعت عليه يدي، فإذا هو عصيٌّ عنيد لا تلين له سنٌّ - أو قناة على ما يقولون - فإذا ألقيته وحملت القلم الذي اعتدت زمانا أن اكتب به الشعر، أو الذي اعتاد هو أن يكتب لي الشعر، انطلق على سجيته طيعا رفيقا سهل المقادة حسن التهدي إلى قبله الشعر. فاحب الآراء إليّ أن اجعل للقلم شخصية منفصلة تعين الكاتب أو تعانده، فذلك أشبه بالسلطان العريض الذي فرضته الأقلام على الحياة، والذي لولاه لعاش الإنسان ومات وكأنه لم يوجد قط.
كنت أردت أن اكتب شيئا عن المتنبي وعن حكمته وبصره الحياة وبالناس وبما يعتلج في القلوب على اختلافها , وذلك لحديث جرى بيني وبين أحد ضيوف مصر من أهل العراق. وأردت أن أقارن بين ما يسمونه شعر الحكمة، وبين حكمة المتنبي في شعره، وأين وقع منه سائر الشعراء؛ فما كدت ابدأ حتى عرضت لي أبيات المتنبي التي يقول فيها: