وما استعصى على قومٍ منالٌ ... إذا الإقدام كان لهم ركابا
وأردت أن أعرض للفرق بين القولين، وبين العبارتين، وبين القوتين، وبين البيانين. فأي دقة وأي هداية كانت لهذا الرجل الفذ الذي لو احتلت على بعض ألفاظه أن تجد لها بديلا في كلامه لأفسدت معنى البيت وقوته وعبارته وبيانه! فخذ مثلا لفظ (الأنيس)، وتخير ما شئت من حروف اللغة وضعه حيث وضع المتنبي لفظه، وأقرا وانظر وتدبر، هل يليق أو يسوغ أو يلين أو يستقر في مكانه من البيت؟ ضع مكانه (الإنس) أو (البشر) أو (الناس) أو (الأنام) أو ما شئت، سواء استقام الوزن أو لم يستقم، تجد الفرق بين الاختيارين عظيما واسعا. فهو قد اختار اللفظ والبناء الذي يدل دلالة على المؤانسة والرقة والتلطف وإظهار المودة والظرف وحلاوة الشمائل ولين الطباع، ليظهر لك أنها تخفي تحت هذا كله طباعا وحشية ضارية مترفقة حينا وباغية أحيانا فمهد للصورة التي أرادها باللفظ الذي لا يستغني عنه في دقة الصورة وحسن بيانها. فأين هذا من ضعف شوقي الذي لم يزد على أن جمع كلمات رص بعضها إلى بعض لا حاصل لها ولا خير فيها. وما قيمة ذكر الركاب، مع الإقدام والاستعصاء والمنال؟ وأما البيت الأول (وما نيل المطالب)، فهو كلام عامي دائر على الألسنة، ولا فضل فيه، بل هو أشبه بتقرير ضعيف عن معنى ليس بشيء.
وعندئذ عرض لي أنا أن هذا الفعل من شوقي هزل للمعاني، وهزل في طِلابَها، وهزل في أدراكها على وجهها. وإذا هذا القلم يسألني - أو يأبى ألا أن يذكرني - بان الهزل الذي كان فيه شوقي خير من كل هذا الهزل الذي أصبحنا وأمسينا نعيش فيه. فالدنيا تجد من حولنا ونحن نهزل، ولا نكاد نجد من كبار رجالنا أحدا قد نهض به جَدُّه وجِدُّه في ناحية إلا وقد سقط به هزله في ناحية أخرى. وان اشد البلاء من مثل هذا الرجل أن يلبس عليه حتى يظن أن هذا الهزل هو أجد الجد، لأنه ظن انه ما بلغ إلا بجدٍّ كان فيه طبيعة مغروزة فظن حتى صار ظنه حقا عنده.
ولسنا نحب أن نطعن على الرجال بالحق فضلا عن الباطل، ولكن بلادنا في كل مكان من مصر إلى الشام إلى لبنان إلى فلسطين إلى العراق إلى بلاد الهند إلى أند ونسيا إلى الجزائر وتونس ومراكش؛ قد أحست شعوبها أن ساعة الجد قد آذنت ودنت، وأنها ساعة إذا أفلتت فلن تعود إلا بلاء وعناء وشقاء. ومع ذلك فالرجال والزعماء وأصحاب الرأي أيضا،