وهو اشد البلاء، قد ركَّبوا في رؤوسهم أذنا من طين وأذنا من عجين - كما يقول المثل العامي - فما يسمعون حسيس النار التي تشتعل في صدور أبناء هذا الشرق ألا كحشرجة الميت، فهم يعالجون أمورنا على صورة من اليأس والملل، كأنما يرجون الظفر بأي شئ كان، ماداموا يحسبون انهم إذا رفعوا لأعين الناس هذا الذي ظفروا به، وقالوا لهم لقد ظفرنا لكم بخير ما ترجون، صدّقهم الناس وصفقوا لهم ومشوا في ركاب مجدهم، وجأروا إلى الله بالشكر على ما انعم على أيديهم. فهم ليسوا طلاب حق ضائع بل طلاب مجد كاذب، يظنون انهم يختمون به أعمالهم الصالحات.
فأي هزل كهزل رجال الهند مثلا، وهم الذين عركوا ساسة الإنجليز مائة وخمسين عاما أو تزيد، ولقوا من خداعهم وكذبهم وتغريرهم وقسوتهم وشناعة أحقادهم مالا ينسى مواجعه ألا غِرٌّ غافل؟ وإذا الذين كانوا بالأمس نار الثورة وضرامها قد رضوا أن يستمتعوا بالحكم ويصيروا وزراء في شعب مستعبد تدوسه أقدام الغاصبين، وهو لا يزال يسمع منهم أن الهند جزء لا يتجزأ من هذه الأمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن أملاكها - فأي هزل اسخف وابعد في الغفلة والسذاجة وسوء التقدير من هذا الحكم؟ وفيم يدلس هؤلاء على إخوانهم الذين لا يعرفون كما يعرفون من خبايا النيات البريطانية التي تدس لهم السم في الدسم؟ أو لم تكفهم العبرة التي لا تزال أختهم مصر ترفل في أغلالها منذ سنة ١٩٢٤ إلى يوم الناس هذا، حين قبل رجال الثورة إن يكونوا للناس حكاما تحت ظلال الغصب والاحتلال؟
وأي هزل اشد على النفس الشاعرة مرارة وغضاضة من رجال قاموا من غفلتم ومنامهم يسمعون الشعب كله ينادي (الجلاء ووحدة وادي النيل)، أي ينادي بالحق الطبيعي الذي لا يحتاج إلى تفسير ولا بيان ولا شروط، والذي ظلت مصر الصابرة تهمس به أحيانا وتصرخ به أحيانا أخرى منذ سنة ١٨٨٢، وإذا هم يطالبون بالذي يطالب به الشعب، ولكنهم لا يلبثون ألا قليلا حتى يرضوا لأنفسهم أن يدخلوا من باب المفاوضة مع البريطانيين، فلما دخلوا داروا فيها كما تدور بهم، وهم كانوا أولى الناس بان يعرفوا بعد طول التجربة ما عرفه الشاب مصطفى كامل إذ قال لهم:(لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، لأنه أدرك إن المفاوضة معناها أن ينزل الضعيف عن أكثر حقه للقوى الطائش الباغي؛ فما