ظنك به وهو ليس بقوي طائش باغ وحسب، بل أيضاً منصور مظفر قد خرج من الحرب وهو يظن أن الدنيا له، وانه وان كان ضعيفا بين الأقوياء، إلا انه هو الجبار العظيم بين الضعفاء؟ وانه سوف ينال من الأقوياء والضعفاء بحيلته وسياسته ما لا ينال بالعنف، فلذلك آثر طريق المفاوضة، واتخذ أعوانه لينيموا الشعب إليها حتى يهدأ ويسكن ويظن انه بالغ ما يريد؛ لان الدنيا تغيرت، ولان العالم في حاجة إلى نظام جديد ليس بينه وبين القديم شبه. وظلت المفاوضات اشهرا وهي تسير فينا على عكازتين كأنها هي الأخرى من ذوي العاهات الذين خلفتهم الحرب عرجا وظلَّعا أو شرا من ذلك. فأي هزل هذا؟
أي هزل هذا الذي يؤمن به رجال يخالهم الناس من أصحاب العقل والحكمة وسداد الرأي في المعضلات؟ وماذا فعلوا منذ بدءوا إلا إن قدم الإنجليز مشروعا وقدموا مشروعا؟ ولا يزالون على ذلك إلى يومنا هذا. فهم إنما يتقارضون كلاما لا يغنى عنهم ولا عن مصر. وفيم يتفاوضون؟ ألا أن الحق بيّن والغصب بيّن، فقولوا لأصحابكم الذين تفاوضون إن مصر لا تريد إلا تحقيق هذه الكلمات:(الجلاء ووحدة وادي النيل). إننا نريد مصرنا وسوداننا، إننا لا نريد منكم إلا أن تدعونا وشأننا، اخرجوا من بلادنا، فارقونا. قولوا ذلك وعلموا الشعوب بأيمانكم وإصراركم أن تكون اشد إصرارا وأيمانا وأوفى شجاعة واقدر صبرا، وإلا سوف يأتي يوم يجدُّ فيه الشعب جدَّه، فإذا الذي ظننتم انه مجد لكم هو ابغض شئ إلى الشعب، واعلموا انه لا مجد إلا بفعال، والهزل مخبثة للفعال، فجدوا إذن وعودوا إلى الإنجليز من حيث بدءوا بكم.
إن هذا الذي يحدث في الهند وفي مصر حسرة للنفوس تطوي تحتها أسوا مغبة، فهل من رجال ينقذون بلادهم من شر هذه الموبقة المستطيرة؟ إن الحكام والمفاوضين طلاب المجد لن يذوقوا لذة المجد حتى يكون الشعب هو الذي يذوق لهم طعمه، فإذا إستكرهه، فلا تخدعنهم الحلاوة التي يجدونها في ألسنتهم، فإنها مرارة الدهر وذل الأبد. ورحم الله المتنبي:
من أطاق التماس شئ غلابا ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا