العلم والفن، أو كالرومان الذين شيدوا الممالك وأوجدوا التشاريع، أو كالأمة العربية التي أخذت عن الأمم السالفة ما أخذت وأبدعت من ذاتها ما أبدعت وساهمت في تشييد صرح المدنية الحاضرة، ولكننا إذا اعتبرنا البشرية بأجمعها أسرة واحدة ورثت كل أمة عن الأخرى ما ورثت فعند ذلك نميل إلى الاعتقاد بالتقدم الدائم والتطور المستمر.
هذا التطور البطيء هو من سنة الكون، ولكن بجانب ذلك نشاهد في عالم الطبيعة وعالم المجتمع من انقلاب فجائي واندفاع آني يدك الأرض دكا ويغير معالمها. إن هذه الغضبة تغضبها الطبيعة في انفجار البركان وفي الزلزال الأرضي يذهب ضحيتها في كثير من الأحيان كثير من الكائنات الحية. وفي عالم الاجتماع نشاهد ذلك أيضاً في الانقلابات الاجتماعية التي تكون عند الاختراعات العظيمة أو عند اليقظة الفكرية. ولعل حاجتنا في هذا العصر الذي قطعت فيه أوروبا في سبيل الرقي والتقدم ما قطعت من الخطوات الواسعة، إلى انقلاب في جميع طرز حياتنا لأعظم من أي عصر، لأن بلاد الغرب قطعت تلك المراحل في قرون عديدة.
أما نحن، فان حاجتنا أن نأخذ النتائج كما هي، ومن بعد ذلك نسمى في الإبداع وإظهار قابليتنا. فإذا أردنا أن ننتظر الزمن وتقلباته البطيئة فلن نلحق بركاب الغرب. عند ذلك نبقى متأخرين عن الأمم الراقية أبد الآبدين. فالأرض تثور لتخرج ما في جوفها من لظى مستعر، والمجتمع يثور ليطلق ما في قلبه من نار متأججة مبدلا بها معالم حياته. وكم من تشابه بين الطبيعة والمجتمع. تدفع المياه إلى النيران المستعرة في جوف الأرض فتتشكل الأبخرة وتتراكم إلى أن تنطلق بقوة وعنف، وكذلك تتجمع الأفكار في الأدمغة إلى أن تنطلق بقوة فعالة فتدك المعالم القديمة لتبني فوق أنقاضها عالما جديدا على أساس عميق. وما أعمق غور الإنسان، وما أشد حاجته إلى أن يبني بناء المجد الشامخ على أساس ثابت! وكلما سمت الشجرة في السماء تحتاج إلى جذر عميق في الأرض، منبعث عن توق للتجدد واشتياق كامن في النفوس إلى الحياة. ولا يعد من أبنائها إلا من تاق لها وقدر قيمها. أما من لم يتق إلا للفناء ففي قرارة نفسه على رأي بعض الأدباء المعاصرين فراغ رهيب وصدى فناء صارخ بصوت القبور، ونشاط أجوف يبتلع القيم، ناقم على الوجود. ويقاس الناس في عمل كل إصلاح بالنسبة إلى إيجابيتهم وأهليتهم للبناء ومساهمتهم في الفوضى. المدمرون