وفي تشريعه على المذاهب الفقهية وفي عقائده على الآراء الكلامية. وقد صار القرآن بهذا كأنه تابع لا متبوع ومحكوم عليه لا حاكم
ولقد تهيب الناس بهذا الوضع كتاب الله وصاروا لا يعرفون من مزاياه سوى أنه كتاب يتعبد بتلاوته ويتبرك به وتستمطر به الرحمة على الموتى ويستشفي به من الأمراض والعلل الجسمية
في هذه البيئة نبت الشيخ عبده كما ينبت الورد بين الأشواك أو كما ينبع الماء الصافي من بين الصخور. فكان بحق مجدداً لأمر هذه الأمة وكان بحق نوراً انبثق من أفق الأزهر انتفع به من انتفع وازور عنه من ازور، وبقي على ذلك قوياً وهاجاً يجذب إليه أنظار المؤمنين وينفذ إلى بصائر المخلصين
زلزل رحمه الله على الجامدين حصونهم، ودمدم عليها بالحجج، والبراهين، وكشف الحجاب الذي أسدله الجمود والتعصب على الدين شرعة وعقيدة، فبدا منه ما كان خافياً وعاد إليه بهاؤه الأول وجلاله القديم، وبدد الغبار الذي عقد حول كتاب الله وأنقذه من شر هذه النزعة التي جعلته وراء الظهور، وآثرت عليه قول فلان وفلان
وليس من الممكن أن نبسط آثار هذا المجدد العظيم في كل ناحية من النواحي، ولكننا نعرض في اختصار إلى موقفه من القرآن؛ فإنه كان يراه أصلاً للدعوة الفكرية الإصلاحية مهما تشعبت فروعها، وكان ينظر إليه على أنه أساس القوة ومصدر العزة للدولة الإسلامية والمسلمين جميعاً. فأستقبله على أنه - كما أنزله الله - كتاب هداية وتشريع وأخلاق، ونهى عن اتخاذه لغير ذلك من الأغراض المادية التي لا تليق بجلاله، والتي تصرف المسلمين عن الانتفاع بهديه وإرشاده، ونبه المسلمين عامة وأهل العلم خاصة إلى مركز القرآن، وأنه المسيطر على كل ما سواه في العلميات والعمليات، يجب أن يتحاكم إليه المختلفون، وأن يخضعوا لحكمه وأن يتركوا جميع الأقوال لقوله؛ فليس أمام حكمه حنفي ولا شافعي ولا سني ولا معتزلي
وقد عني رحمه الله أشد العناية بتجريده التفسير من كل ما لا ثقة به من الروايات والإسرائيليات، وأوجب الوقوف عند الحد الذي قصه القرآن من أحوال الماضي أو أخبر به من شئون المستقبل