للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هي دنياي، فو أسفي، إن دنياي قد احتواها التراب!

لم يبق من آثار هذا العالم الحافل بالإخلاص والحب إلا قبر منعزل وساقية صغيرة، تميل عليها شجرة صفصاف، وهذا كل شيء. . .

إني لأقدس ذكرى هذه الشجرة، وأخشع لها. إن حركات غصونها لتحرك في نفسي عالماً كاملاً، ولكنها لا تبالي ذكرياتي ولا تحفلها. إنه قائمة تحنو على اللص الفاتك، كما تحنو على المحب الثاكل، وتؤوي المجرم الهارب، كما تؤوي الشاعر المتغزل، فما أضيع ذكريات المحبين عند الطبيعة، وما أضيعها عند الناس!

لقد انصرف عني السيد حيدر الجوادي، ونام عني أصحابي، وتركوني أتجرع غصص آلامي وحيداً، فمن هو الذي يعطف علي، ويشاركني حمل الآلام؟ لقد أيست من الطبيعة ومن الأصحاب، فهل تسعدني أنت يا أيها المحسن المجهول الذي لا أعرفه أبداً؟ أنت يا من يجوز مع الشمس بمقبرة الدحداح يزور حبيباً له طواه الرمس، هل تمن على غريب متألم فتحيى عنه هذه البقعة وتعطف على ذكريات له فيها، هي أعز عليه من الحياة، لأنها كانت جمال الحياة؟ هل تترفق في سيرك وتتئد وتعلم أن في هذه الرمال التي تطؤها أطلال قلب كان من قبل عامراً سليماً. . . ترفق فانك لو ملكت حاسة تدرك بها الذكريات لرأيت في هذه البقعة ما بين رمالها وترابها، بقايا قلب محطوم، بقايا دامية حزينة شاكية، ولسمعت نشيجها

ما تصدع هذا القلب من هجر الحبيب، ولا هدته أحداث الغرام، ولكن عصفت به عاصفة من موت الأم فهدت أركانه، فأسكب على بقاياه قطرة من الدمع تحيها بها ساعة، أو قل كلمة تسعد بها روحه الحزينة، ثم توجه إلى القبر المحبوب، إلى قبر أمي وأبي أيها الصديق المجهول، فاسأل الله لساكنيه الرحمة والغفران، فما بقي لي بعدهم أحباء، ولا بعده دنيا. . .

لقد تركت تحت أقدامك قلبي وحبي يا أيها المحسن المجهول، فارفق بهما. اسعد هذا اليتيم الضعيف، وإن كان الناس يدعونه شيخاً، وإن كان في الثلاثين من عمره!

رب، رحمة لهذا اليتيم الضعيف، ابن الثلاثين!

(رب أغفر لي ولوالدي؛ رب أرحمهما كما ربياني صغيرا)

<<  <  ج:
ص:  >  >>