للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والأشجان. وقد استعطف المتوكل بقصائد باكية، فما نالت من قلبه المعرض أي منال، حتى توهم أن السجن قد أصبح مقره الدائم، أبد الحياة. هذا وأقوال الشامتين الساخرين تصل إليه في معتقلة فتمزق نياط قلبه وتخرق مسامعه فماذا يصنع لإسكات هؤلاء وقد صد عنه الخليفة أعنف صدود وأقساه؟ موقف محزن حقا وحالة تبعث الزحمة والإشفاق وقد رأى ابن الجهم أن يظهر ارتياحه لمحبسه، وقبوله إياه، في شعر يبعث به إلى الشامتين الساخرين ليقصروا ألسنتهم عنه، فنظم هذه القصيدة التي نعرض لها الآن، ذرا للرماد في الآماق، وتجلدا على نوائب الأيام

ومضت الأيام وخرج الشاعر من السجن، وبقيت قصيدته عزاء يندى على الرزوئين بالسجون بعد ذاك، فكانت الأنشودة التي يترنم بها هؤلاء المعذبون في ظلماتهم القائمة. . ثم رمى الدهر بعاصم بن محمد الكاتب العباسي إلى السجن فرأى من أهواله ما أقض المضجع، وأضرم الشجون، وقد كان يحفظ قصيدة ابن الجهم فرددها في نفسه، مرات ومرات، وأيقن أنها لا يمكن أن تعبر عن عواطف السجناء بحال، فهي وإن حفلت بأساليب العزاء والاستسلام، تجافي الواقع الصريح أعنف مجافاة، فاندفع ينقضها بقصيدة تضع الحق في نصابه أمام الناس. وها نحن أولاء نوازن بين القصيدتين لنرى أي الشاعرين أصاب حظا من التوفيق والإبداع

لقد كان ابن الجهم يعتقد أنه مقبل على أكاذيب فاضحة، فهو يدافع عن قضية خاسرة لا تجد الناصر المعين، ومن ذا يحبذ السجون من العقلاء؟ لذلك نجده يقمع عواطفه فلا يسمح لها بالظهور في مطلع قصيدته، ويستهدي بعقله الناصح فيهديه إلى غرائب التشبيه وفي التشبيه مجال فسيح للتلفيق والتنميق، حيث ينسى القارئ عادة ما بين المشبه والمشبه به من فروق، ويلهيه وجه الشبه الواضح عما هناك من أبعاد، وإذ ذاك يجد الشاعر الفرصة مواتية لما يريد أن يقنع به الناس

إن الخيال الزافر بالتشبيه ليحلق بابن الجهم في أجوائه البديعة فيرى السيف الصارم يغمد في جرابه بعد التجريد، ويلمح الليث الواثب يربض في غيله الأشب فلا يتردد في الآفاق كما تتردد صغار الوحوش، ويشاهد البدر المتألق يحتجب وراء الظلام فترة محدودة ثم يضيء واضح القسمات! كما يعلم أن النار المضطرمة تكمن في الحجر حتى يقدحها الزناد،

<<  <  ج:
ص:  >  >>