للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وغروره وترك وقاحته وهجره، ثم هام كالمشدوه على وجهه، فإذا سأل عن (جنان) قوبل بما يكره من الأنباء الصاعقة، والأخبار الفاجعة وهو في كل دقيقة يتجلد ويتصبر. وقد يدق شعوره فيتصور سبابها المقذع تكريماً جليلا لشخصه، لأنها تذكر أسمه لا محالة، وفي هذا غنم كبير يساق إليه بلا حساب، اسمعه يقول:

أتاني عنك سببك لي فسبي ... أليس جرى بفيك أسمي، فحسبي

تشابهت الظنون عليك في ذا ... وعلم الغيب منه عند ربي

وليت شعري لم يذكر أسم ربه في هذا الموضوع وقد نسيه قبل ذلك؟ أيكون الحب قد جذبه قليلاً إلى روضة الإيمان، أم أنه الضعف البشري يتسلط على المرء فيلجئه إلى الاستعانة بربه، وإن تقطعت السبل، واستبهم الطريق.

ولقد تطايرت الأنباء إلى العاشق المدنف أن (جنان) ستحج مع مولاها إلى مكة وذهب الحسن يتأكد من النبأ ويستوثق من مصادره العلمية، فعرف أنه حق لا مرية فيه، ومن ثم فقد أعد العدة، وأعلن لأصحابه أنه سيخف إلى مكة في قافلة صاحبته. ولم يدهش البصريون لحج الشاعر، فهم يعلمون أنه يقصد به غير وجه الله. ولقد كان يتتبع صاحبته في كل مكان له تتزك بالبصرة، فلا عليه إذا واصل مراقبته الدقيقة في مكة، مهما كلفه ذلك من صحته وماله، والطريف أنه لا يقبل أن يترك الناس في حيرة من حجه المفاجئ، بل يكشف اللثام عن باطن سره إذ يقول:

ألم تر أنني أفنيت عمري ... بمطلبها ومطلبها عسير

فلما لم أجد سبباً إليها ... يوصلني وأعيتني الأمور

حججت وقلت قد حجت جنان ... فيجمعني وإياها المسير

وأنت لو قارنت بينه وبين أبن برد لأدركك العجب من ثبات بشار وخفة الحسن، فقد خدع الأعمى قومه حين زعم أنه سيحج تائباً إلى ربه وأتجه في أيام الحج إلى (زرارة) وأقام بها مع أحد أصحابه، ثم رجع مع العائدين من مكة في يوم واحد، وجلس يتقبل التهاني، ويقص الأحاديث المسهبة عن زمزم والحطيم، دون أن يفضح نفسه بكلمة واحدة، حتى أماط صديقه القناع، فكشف أمره أمام الناس في أبيات فاضحة، أما أبو نواس فهو لا يريد أن يلبس على القوم حقيقته، فيتستر بالورع والنسك، ويدجل بالطواف والتلبية، بل يذيع شعره

<<  <  ج:
ص:  >  >>