وأدخل بعضنا أيديهم في جيوبهم ثم مدوها بما جادوا به إلى فتى نبأتني كتبه ودفاتره أنه من الطلبة، تولى جمع صدقة لذلك المكين واجتمع عدد من السابلة يواسونه بكلماتهم التي كان يمجها سمعه فما فيها غناء تلقاء هذه الكارثة. . . ودنا منه أحدهم وهو شاب في ملابس العمال فقال له في لهجة قوية. وماذا جرى حتى تفعل هذا كله. . . عيب. . . أسكت. . . خليك جدع. . . وقال المسكين: سيطردني الخواجة فلا أجد عملاً. . . واقترب منه عدد من العمال وفي يد كل منهم بعض أدوات حرفته أو منديل طعامه، وكان جميعاً يستشعرون العار مما يفعل، فكانوا يطلبون إليه أن يكف وهو في حيرة من أمثال كلماتهم. . . (بلاش عبط)(خليك عاقل و (إيه يعني) وإضرابها لا يرى فيها حلاً لورطته القطيعة. . .
ونظر هؤلاء العمال إلى ذلك الطالب الذي كان يجمع الصدقة، فارتاحت نفوسهم، وإن بدا شيء من الخجل في وجوه بعضهم؛ ومشى الطالب إلى كهل بادي الوجاهة شهد الحادث من أوله، فرجا منه أن يجود بشيء؛ فتكره لح واحمر من الغضب وجهه، وحار لحظة ماذا يذكر من علة للرفض؟ ثم انفرجت شفتاه الغليظتان الصارمتان عن قوله، وهو يشير إلى اللبن بسبابته: من غير شك دا عليه ميه!
وضحكت، وما كان أحوجني إلى الضحك ساعتئذ، فقد أثقل الألم قلبي. . . ونظر إليه العمال نظرات كريهة، ومشى الطالب إلى بائع اللبن المسكين يعطيه ما جمع له، فما كان أشد عجبي أن رأيت أحد هؤلاء العمال يعود إلينا بتلك القروش ويطلب إلى كل منا أن يسترد ما أعطى؛ ونظرت فإذا بهم يخرجون أيديهم من جيوبهم الفقيرة بالقروش يدفعونها للغلام المسكين ويكفكفون بها دمعه، ومضيت وما سرى عن قلبي ما أثقله إلا ما في عملهم هذا من مغزى: لقد رفضوا الصدقة التي صحبها الأذى واحلوا محلها العون، وقالوا لنا، وإن لم ينطقوا: لسنا في حاجة إلى عطفكم وأن كنتم إلى سعينا وكدحنا أبداً محتاجين. .