المحيط فقال:(مرحى! مرحى! أيتها الأمواج الزرقاء. مرحى مرحى أيتها المغاور والفجاج! إلى الأمام أيها السفين إلى الأمام! إن أرض الوطن قد توارت. أيها الوطن سلام عليك! أصطخب أيها المحيط الأزرق العميق، أصطخب أيها المحيط لقد أحببتك. وعلى صدرك كانت ملاعب صباي، ومواطن سروري؛ كنت أعبث بأمواجك صبياً وكان ذلك أعظم سروري. فأن جعلها البحر رعباً فما أحبه رعباً! كنت ألجأ إليك كأنك أبي، وأخلد إلى أمواجك القريبة والبعيدة، وأمر بيدي على لبدك المتكاثفة كما أفعل هنا الآن.)
وقد يقف إنسان بجانب ماء آخر ليس لامعاً ولا متحركاً، ولكنه مظلم عميق، فلا يفكر في جمال هذه الصورة ولا يشعر بها، لأنه لم يوهب حساسية غزيرة أو شعوراً قوياً عميقاً يدفعه إلى أن يديم النظر في مثل هذه الصورة الطبيعية الأخاذة، ولكن الشاعر الذي يشعر بهذا الكون ويفكر في هذا الكون، لا يفوته هذا الجمال الطبيعي الساذج فيصيح من تلقاء نفسه كما صاح تنيسون من قبل إذ يقول:(إنها عين ماء نائمة)
. . . فالشعراء يشعرون بما حولهم من عالم الحس والطبيعة وهم لا يقنعون بهذا العالم الأرضي، بل يشركونه بالعالم السامي، عالم الخيال، دون أن ينفصلوا عن عالمهم الأول. أما أولئك الذين لا يحسون بهذا العالم السامي، عالم الفكر الدقيق، والخيال البعيد، فانهم لن يكونوا شعراء وإن كانوا يستطيعون النظم ونحت القوافي
وقد يتمادى بعض الشعراء في شعورهم بهذا العالم الآخر فينسون أنفسهم وهم يحلقون إليه فيضلون الطريق ولا يستطيعون الرجوع إلى أوكارهم الأولى فيمضون يضربون بأجنحتهم في الفضاء على غير هدى حتى ينالهم التعب ويلحقهم اليأس فيهوون من سماء عليائهم محطمين. . . .
. . . فالشعراء حقاً هم الذين يصلون العالمين، ويجمعون بين الحياتين: حياة الواقع وحياة الخيال. الشعراء حقاً هم الذين يتأثرون بما حولهم ويأخذون جانباً كبيراً من عواطفهم من العالم الظاهري، من نسائه وأزهاره وأجوائه ودقائقه، ثم هم يلقون على هذه العواطف ألواناً من العالم الخفي حتى تظهر كأنها غريبة عنا. . .
فالشاعر لا يرى الأسد كما يراه عالم الحيوان، ولكنه يخلع عليه صوراً تجمع بين ضروب المشابهة والضد، فيتأمله في حالات عدة كالذعر والخوف والإعجاب، وقد يأتي وصفه بعيداً