للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الرجال.

كما يروى عن سفيان الثوري قصة عجيبة فقد جلس على مائدة مليئة وفوقها حمل شهي، فأخذ يأكل مع أصحابه بنهم؛ فقال صاحب المنزل يا غلام ارفع المائدة إلى الصبيان، فرفع الحمل إلى داخل البيت. فقام الثوري يعدو خلفه فقال صاحب المنزل إلى أين يا أبا عبد الله؟ فقال آكل مع الصبيان. فاستحيا الرجل وأمر برد الحمل ثانية إليه.

ولقد طلعت في كتب المتصوفين اصطلاحات عجيبة تدل على كلفهم بالمأكل والمشرب. فالحمل عندهم هو الشهيد بن الشهيد، والقطائف هي قبور الشهداء والفالوذج هو خاتمة الخير، واللوزينح هو أصابع الحور، وهذا قليل من كثير جدا ذكره الثعالبي في كنايته، والأصفهاني في محاضراته فليرجع إليهما من شاء.

وإذن فالكلف بالطعام ليس بمذموم على إطلاقه، ولكن لكل شئ نهاية، فإذا أدى الكلف إلى النهم والشره فذلك ما لا يطاق معه صبر واتئاد. واذكر أن صحابياً جليلا - أظنه ابن عباس - دخل عليه سائل نهم فأكل أكلاً عينفا، فجعل ينظر إليه في تعجب، حتى إذا خرج من عنده قال لخادمة إياك أن تدخله مرة أخرى، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المؤمن يأكل في مع والكافر يأكل في سبعة أمعاء.

ويعجب المطلع على الأسفار الأدبية حين يجدها متخمة بأخبار الكثيرين ممن أطاعوا شهواتهم فجن جنونهم بالطعام، ينصبون له الحبائل، ويتصيدونه من مظانه، باذلين ما يملكون من جهد في تحقيق رغبات أمعائهم سالكين شتى الطرق المباحة والمحرمة لا يزعهم وازع من خلق، ولا يقف أمامهم زاجر من ضمير، حتى كان من أحدهم أن رفع يده إلى السماء - حين قيل له هذه ليلة مباركة - فقال: اللهم اجعل التخمة دائي وداء عيالي. وسلك نهجه شره آخر فقال: اللهم أني أسألك ميتة كميتة أبي خارجة، أكل حملا وشرب معسلا ونام في الشمس، فلقي الله شبعان ريان دفأن ملأن!!.

ومن المدهش الغريب أن يجاوز النهم طبقات العامة والدهماء إلى الملوك والخلفاء، وخاصة رجال العصر الأموي فقد أطلقوا العنان لملذاتهم، ونضدوا الموائد الدسمة لرغباتهم، وكأن كل خليفة ينظر إلى طعام من قبله فيزيد عليه متخيرا، وكأن الطعام قد صار كل شيء في الدولة، فهو الميدان الأول للتنافس والمباهاة!.

<<  <  ج:
ص:  >  >>