وقد انتقلت حمى الجشع والنهم من الخلفاء إلى الأمراء والحكام في هذا العصر الشره، فكأن عبيد الله بن زياد يأكل قبل غدائه أربع خرادق أصبهانية. وكأن الحجاج بن يوسف ينسج على منواله، قال سلم بن قتيبة: عددت للحجاج أربعاً وثمانين لقمة، في كل لقمة رغيف من خبز، وفي كل رغيف ملء كفه سمك شهى. وكم تندر العرب بنهم خالد القسري وعبد الله ابن المغيرة الثقفي، مما يؤكد لنا أن الناس على دين ملوكهم في كل زمان.
ونبدأ بمعاوية، فنذكر أنه كان ذا أنياب حادة، وأضراس مفترسة، تأتيه المائدة محملة مثقلة فترجع خاوية خالية. وكانت الوفود تترى عليه من القبائل النائية فتعجب لما تشاهده من طعامه وشرابه، وتتحدث بذلك في شتى الأصقاع حتى قال فيه الوليد بن عقبة:
إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد ... لها أبدا ما دام فيها الجراضم
وأهل اللغة يقولون الجراضيم هو الواسع البطن الكثير الأكل ثم نثني بهشام بن عبد الملك فنسجل له مهارته النادرة في هذا المضمار، فقد خرج للتنزه ذات يوم فرأى راهباً يتحنث في بستان له، فدخل عليه فأخذ الراهب يجمع له من الفاكهة ما يقدم عادة للملوك والخلفاء، وهشام يأبى على ما يجيئه غير مقتصد في نهمه، ثم قال له: أتبيعني هذا البستان؟ فسكت الراهب لم يجب، فقال له: مالك لا تجيبني؟ فقال وددت لو مات الناس جميعا غيرك، قال: لماذا ويحك؟ الراهب: عسى أن تشبع!.
أما لوليد بن يزيد فلم يكتف بالبطولة في ميدان الطعام بل ضم إليها بطولة أخرى في ميدان الشراب، قال ابن أبي الزناد كنت عند الوليد ذات مساء فدعا بالعشاء فتعشينا ثم جاءت ثم جاءت المغرب فصلينا، وجلس ثم قال اسقني فجاءوا بإناء مغطى وجئ بثلاث جوار فصففن بيني وبينه حتى شرب ودهش فتحدثنا واستسقى ثم مازال كذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحا من الشراب!!.
وقد يظن كثير من القراء أن هذا الأخبار ملفقة مصنوعة قد ألصقت بأصحابها إلصاقا لما يرون من غرابتها العجيبة، وأنا لا ارتاب في صحتها لحظة واحدة، لأننا نشاهد في عصرنا الذي نعيش فيه من يزيدون شراهة ونهما عمن ذكرنا من الخلفاء، فعندك (فقهاء) الريف يجلسون على الموائد المتعددة في ساعة واحدة ملالة أو سأم، وكأنهم يرجون الخدم فيغسلون الأطباق غسلا لا يحتاج معه إلى تنظيف وتجفيف. ورحم الله الأستاذ الشيخ عبد العزيز