للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

البشري فقد ذكر في الجزء الثاني من المختار ما رآه بعينه من الجشع والشره دون أن يخبره به مخبر، وهو عندنا صدوق مصدق. ولم لا أعلن القراء شاهدت نهما يأكل من سقط مملوء بالخبز اللين والجبن - وكنا نركب القطار من المنصورة إلى الزقازيق - فما كدنا نقطع الطريق حتى كان صاحبنا قد ترك الوعاء خاليا مما فيه، وكأن يستعين على أداء رسالته الجسيمة بالشراب المثلج بين الفينة والفينة حتى وفق في مهمته اكبر توفيق!! فهل نشك بعد ذلك فيما ترويه الكتب من أنباء؟.

أما الطامة الكبرى فهو سليمان بن عبد الملك فقد فاق من تقدمه في مضماره، وتحدث الناس بنهمه كما يتحدثون عن معجزة خارقة أخذت بمجامع الألباب، وهم يروون له قصة عجيبة نسمعها فتدعنا في حيرة منها ومنه، وما ظنك بمن يأكل في مجلس واحد جديا مشويا وخمس دجاجات وقصعة كبيرة من الثريد ثم يقعد ليشتكي الجوع!! ولقد كان جشعه هذا سبب موته ببطنته. . . قال أبو الحسن المدائني أقبل نصراني إلى سليمان بن عبد الملك وهو بدابق بسلتين، أحدهما مملوءة بيضا والأخرى مملوءة تينا، فقال قشروا فجعل يأكل بيضة بيضة وتينة تينة حتى فرغ من السلتين ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا بسكر فأكله فأتخمه، فمرض ومات صريع الطعام!!.

ونعرج على خلفاء العصر العباسي وأمرائه فنذكر أنهم ضربوا في هذا الباب بأوفر سهم، ويكفي أن نعلن أن الواثق والمتوكل والمستعين والمنتصر والمعتمد لم يكن يعنيهم من أمور الدولة ومشاعلها غير الطعام والشراب. وكانوا إذا فرغوا من الموائد انتقلوا إلى الحديث عنها مع من يلوذ بهم من الأمراء والسمار، حتى ليجوز لنا أن نسمى هذا العصر عصر الموائد والولائم - كما يقول الأستاذ العقاد - وهل رأيت قبل المتوكل على الله خليفة غضب على سميرة ونفاه من مجلسه لأنه لا يتفنن في الطعام؟ وهل رأيت أسفارا ضخمة كتبت في هذا الموضوع بذاته في غير زمان بني العباس؟ فقد ظهرت ثلاثة كتب في فن الطبيخ وحده وضعها أحمد بن يوسف الكاتب، وجحظة البرمكي، وإبراهيم بن العباس الصولي، (وخفت مذمة النهم لأنه اصبح قدوة علما وظمأ وكأنه في ذلك كله اقرب إلى الفخر منه إلى الملامة، وربما كان الخليفة وجلساؤه يتواعدون إلى الموعد، ومع كل منهم طعامه يتفهون باستعراض ألوانه والمقابلة بين صناعاته وطعومه).

<<  <  ج:
ص:  >  >>