المأدبة المملة، ولكن السكون يعد ذلك المرقد الذي يحمل للجالس عليه السبات الأبدي).
ولكن بيرون لم يكن بذلك الجاحد الذي استراح ضميره وأراح، فالحيرة لا تزال تغشاه، والتردد لا يزال يطغى عليه كأنما اتسع قلبه لنوازع يأكل بعضها بعضاً، ويدمر بعضها بعضاً، شأن الذي يركبه الشك، ويتوارى عنه اليقين. وإنما يتميز بيرون من غيره من شعراء الشك بثورة دامية في نفسه يقدم وقودها من قلبه ليحرق بها قلبه، وهو قلب قتله الظمأ إلى اللانهاية، هذا الظمأ الذي عجزت عن إطفائه سواقي الأرض.
قال (لاميني) لزملائه يوماً: أتعرفون ماذا جعل الإنسان أشقى الكائنات؟ هذا لأن له قدماً وضعها في العالم المتناهي، وأخرى في العالم اللامتناهي، وهذه هي حالة بيرون.
ولكن وجه الغرابة في ثورة بيرون أنها اضطرمت في صدره ولما يبلغ الثامنة عشرة، وحق لمثل هذه الثورات أن تثور على مهل لأنها تأخذ غذائها من العاطفة لا من العقل. وقد طغى اليأس عليه وهو مازال في ميعة الشباب ولكن قلبه يخفق ويخفق معلناً (أن الشباب ولى، وأن الحياة بليت، وأن الرجاء نفسه قد أسدل على وجهه حجاباً.)
جاز بيرون بأحد القبور فقال:(يا أحلام طفولتي! كم حسرة تتصاعد مني عليك. أنا لا أستطيع أن أنساك، لأنني أجد ما حولي ظلمات متراكماً بعضها على بعض، لا شيء أعز على قلبي منك يا شعاع الماضي.)
وكتب وهو في فينوس (إنني سأنفق شبابي حتى ينفد، وبعدئذ أقول: عمي مساء أيتها الحياة، فقد عشت وكنت مسروراً.)
ولكن يا له من سرور! وهو القائل (أتيقظ في كل صباح وبي يأس وسآمة من كل شيء حتى من الذي يبطن سهدي بالسرور.)
مم يشكو الشاعر؟ وما هي الأسباب التي أورثت قلبه هذه السآمة وهو ممن لم تعوزهم أسباب الهناء، ولا ممن نزلت بهم حوادث الدهر، وهذه المواطن التي جابها في سياحته تشفي البائسين وتداوي أصحاب الهموم، ميدان الهوى أمامه رحب الفناء، ومجال الحرية والمجد والبراعة واسع الفسحة، فأية سعادة يطلبها، ويلح في تناولها، ويشقي نفسه في تتبعها، وأين يجب أن يتحرى عنها إذا لم يجدها هنالك؟
قد علل بعض النقاد أسباب هذه المظاهر بإفعام نفسه بالسرور الذي يخلق السأم، ولا عجب