للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إذا قتل السرور الكثير صاحبه كما يقتل الحزن صاحبه، ولنسمع الشاعر نفسه يعلل هذه السآمة قائلاً:

(وا أسفاه! عواطفنا الفتية تذوب ضائعة، حيث لا تنتج إلا قفراً فارغاً، ولا ينبت منها إلا أشواك مؤذية. . . ونبات بقدر ما يروق للعين منظره، يؤذي القلب ويؤلمه. وأشجار يقطر منها السم القاتل، هذه الأشجار التي تولد تحت أقدام الأهواء.

أيها الحب! لست أنت من سكان هذا الوجود! أيها الساروفيم الذي لا يرى، نحن نؤمن بك. أنت شريعة أصحاب القلوب المنكسرة فيها، هم الشهداء، ولكن العين لا تراك، ولن تراك بحقيقتك.

الحب هو هذيان، وهو جنون الشباب، لكن علاجه أمر من عذابه، وعند ما نرى تلك الجواذب تتلاشى الواحدة بعد الثانية من أصنامنا الغرامية، وعندما نرى تلك الروعة التي كانت تتمثلها مخيلتنا في حالة التسامي قد زالت، فسرعان ما يذهب هذا الانجذاب عنا، وبعد أن زرعنا الريح لم نحصد إلا العاصفة.

يأتينا الذبول ونحن في فجر العمر. . . نشقى ونسأم ونسعى إلى الغاية، والغاية تمعن في الفرار. . . وظمئونا لا ينقع غلته شيء. . . وفي اللحظة الأخيرة، ونحن على حافة القبر يعودنا خيال جميل هو خيال السعادة التي تحرينا عنها في مطالع الحياة، ولكنه زاد متخلفاً، وجاد بالوصل حين لا ينفع الوصل، فنذوق الشقاء مرتين. . .

الحب والطمع والبخل، كل هؤلاء سيء، ما هي إلا شهب واحدة تجيء باسم واحد. والموت وحده هو الدخان القاتم الذي يطفئ نارها.)

ما أدنى هذه العواطف من القلب، لأنها ما خرجت من قلب إلا لتدخل في قلب. . . ولكن بيرون المظلم قلبه ما وجد على الأرض إلا الظلام؛ وما أبصر إلا خيال السعادة مولياً أمامه، فقيد الحقيقة - التي هي حقيقة الدهر - بهذا الخيال. وهو الشاعر قبل أن يكون فيلسوفاً. ولكن هل كل جمال مآله الزوال؟ أكل حب يستقي من نبعة واحدة، فهنالك أنواع كثيرة لجمال يزول وجمال يبقى، وحب يتلاشى وحب يحيا، فبأي نوع قيد الشاعر سعادته؟

هاهو حائر كيف يقضي أعوامه هنا؟ وكيف يستقبل ذلك العالم الهامد؟ يأتيه الضجر فيبدع أشخاصاً وأبطالاً تغلي فيهم نزعة الضجر لأنهم يستمدون عواطفهم من عاطفته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>