فهذا (ما نفرود) يملك عليه السأم، سأله الجني: ماذا تتمنى؟ فأجابه: النسيان، نسيان نفسي.
وهذا هارولد كان يدعى:(الفتى السائم من الوجود) وهذا (جيور) كان لا يجد أقفر من صحراء القلب الفارغ.
وأخيراً آل به هذا الشك إلى جحود كل شيء، فخلا قلبه من الحب وفرغ من الأمل. واستحالت كل هذه الصفات النبيلة إلى كره للبشر، وهل في استطاعة من كرههم وأوسعهم ذماً أن يبدلوا ظلمة قلبه نوراً إذا لم يكن النور ابن قلبه؟
لنصغ إليه وهو يحدثنا عن الناس (هل أعود إليهم كرة ثانية أتحرى عما يرجوه قلب هادئ في هذه المواطن التي يغلب فيها إنهاك أصحابها في المنكرات، وحيث الضحكات ترتفع عبثاً لتخفي حقيقة القلب. هذه الابتسامة هي تؤلف أخدوداً لدمعة طافرة ستنسكب).
لم يستطع أن يحمل نفسه فطار بها في الآفاق يسليها بالوحدة فطابت له حياة منعزلة تقصيه عن الناس في مواطن آهلة بالجيال التي يدعوها أصدقاءه، منتحياً عن قوانين وحكومات أقسم ليكرهنها حتى يقضي نحبه.
وكان هذا الألم قد أكسبه قوة ومناعة (أما الجمل فإنه يحني ظهره تحت الحمل يمشي ساكتاً، والذئب يموت ساكتاً، ونحن الأولى تسمو جبلتنا على جبلتهم، لنتعلم أن نتألم مثلهم)
ويقول بلسان أحد أبطال روايته (إنني شبيه بهذه الريح المشتعلة التي لا تسكن إلا الصحراء، ولا تهب لوافحها إلا على الرمال. . الأسد وحده أتخذه لنفسي مثلاً) وبمثل هذا الكبرياء حلى بيرون أبطال رواياته، وجعلهم ناقمين ثائرين غير راضين عن الوجود، فأتعب نفسه كثيراً وأتعبهم كثيراً. فإذا كان القعود عن الشيء يعد عجزاً فإن التحليق فوق حدود الإمكان ما هو إلا ضرب من ضروب العجز، وأن يرفض الإنسان الوجود رفضاً باتاً بحجة نقصه، وأن يهرب منه ومن أصحابه بداعي هذه الحجة هما من نقائص النفس التي تستر عجزها وترددها وراء هذا التهور الفارغ.
هذا هو الوجود؛ إن وجدت فيه الجميل فاملكه، وإن وجدت القبيح فحسنه وأصلحه، وإياك أن تعف عن الأول بسبب الثاني، لأن قوانين الحياة قاسية تسحق من يحاول أن يسحقها. هكذا أرادت أن تكون، وهكذا تريد أن تمشي.
وفي النهاية لا تجدي هذه الكبرياء شاعرنا شيئاً، فهو تعس يود أن يعترف بتعسه لنه لا