ولا يقتل النبوغ شيء كالعمل في هذه الصحافة بطريقتها. فأن أساس النبوغ (ما يجب كما يجب)، ودأبه العمق والتغلغل في أسرار الأشياء وإخراج الثمرة الصغيرة من مثل الشجرة الكبيرة بعمل طويل دقيق. أما هي أساسها (ما يمكن كما يمكن)، ودأبها السرعة التصفح والإلمام وصناعة كصناعة العنوان لا غير
فليس يحسن بالأديب أن يعمل في هذه الصحافة اليومية إلا نضج وتم وأصبح كالدولة على (الخريطة) لا كالمدينة في الدولة في الخريطة، فهو حينئذ لا يسهل محوه ولا تبديله. . . ثم هو بمدها بالقوة ولا يستمد القوة منها، ويكون تاجاً من تيجانها لا خرزة من خرزاتها، ويقوم فيها كالمنارة العظيمة تلقي أشعتها من أعلى الجو إلى مدى بعيد من الآفاق. لا كمصباح من مصابيح الشارع.
وحالة الجمهور عندنا تجعل الصحافة مكاناً طبيعياً لرجل السياسة قبل غيره، إذ كان الرجل السياسي هو صوت الحوادث سائلاً ومجيباً، ثم يليه الرجل شبه العالم، ثم الرجل شبه الممثل الهزلي. . والأديب العظيم فوق هؤلاء جميعاً، غير أنه عندنا في الصحافة وراء هؤلاء جميعاً
ولما فرغت من طوافي على دور الصحف جاءت هي تطوف بي في نومي. فرأيتني ذات ليلة أدخل إحداها لأهدي (وحي القلم) إلى الأديب المتخصص فيها للكتابة الأدبية، ودلوني عليه فإذا رجل مربوع مشوه الخلق صغير الرأس دقيق العنق جاحظ العينين، تدوران في محجريها دورة وحشية كأنما أرعبته الحياة مذ كان جنيناً في بطن أمه لأنه خلق للإحساس والوصف، أو كأنما ركب فيه النظر الساخر ليرى أكثر مما يرى غيره من أسرار السخرية فينبغ في فنونها، أو هو خلق بهاتين العينين الجاحظتين دلالة عليه من القدرة الإلهية بأنه رجل فذ أرسل لتدقيق النظر
وقال الذي عرَّفني به: حضرته عمرو أفندي الجاحظ. . . وهو أديب الجريدة
قلت شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر؟
فضحك الجاحظ وقال: وأديب الجريدة، أي شحاذ الجريدة. يكتب لها كما يقرأ القارئ على ضريح؛ بالرغيف والجبن والبيض والقرش. . .
قلت: إنا لله فكيف انتهيت يا أبا عثمان إلى هذه النهاية وكنت من أعاجيب الدنيا، وكيف