وغمرت أيديهم الأجراس، وهي من نوع عالي الصوت، فأضيف نغماتها إلي نغمات المذياع، واختلط بهذا كله استنكار الزائرين واستغاثة بعض من استطاعوا المشي من المرضى، فهذا يصفق بيديه، وذاك يتسخط وبتكره ويستعيذ بالله، وذلك ينادي المسؤولين؛ وتألفت من أولئك جميعا ضجة لن يكون فيما يصور الخيال أشد منها نكرا ولا أبغض نشوزا.
كل ذلك وصاحبنا لا يكترث لشيء، كأنه وحدة في البحر أو في الصحراء. وطرقت الباب أستأذن عليه، ودخلت الحجرة فنظر إلي مستفهما بهزات من رأسه المضطجع على الوسادة، فوقع في نفسي إنه ثقيل السمع فهو لذلك يعلي صوت المذياع، ودنوت منه ورفعت بالكلام صوتي فحبس صوت المذياع واستمع إلي، فرجوت منه وأنا أدعو له بالشفاء أن يغض من صوت مذياعه رحمة بالمرضى وبخاصة مريض كنت أعوده وقد اشتد به الألم ولا يفصل بينه وبينه إلا جدار الحجرة الرقيق.
ونظر إلي مستنكرا - كما فهمت - تطفلي وتهجمي على حجرته واعتدائي على حريته، ولم يرد علي أن أدار مفتاح مذياعه فأعاده أشد مما كان إن كان فيه فضل لزيادة!
ونظر في صحيفته كأن لم يكن أمامه أحد! وللقارئ أن يتخيل نفسه في موضعي، ثم لينظر مبلغ ما في نفسه من تحمس حتى لمجرد هذا الخيال! لقد فكرت أن أنتزع المذياع من مكانه فالقي به في الحديقة، ولو إني فعلت ذلك ما فتأ ما كان في نفسي من غضب. على إن مدير المستشفى قد جاء بعد ساعة فأمر بانتزاع هذا المذياع وحرم دخوله إلى حيث كان. . . وكفى الله المؤمنين القتال. . . نحن لعمرك ولعمري أيها القارئ قوم كثيرو العيوب الاجتماعية، ولتتحمس ما شئت إن أنكرت مني هذا القول، وأكثر هذه العيوب ذيوعا وأرذلها فيما أرى وقعا عدم الاهتمام بالغير، مادمنا قد أرضينا أنفسنا، وما يظن أن في الأمم منهم مثلنا في عدم الاهتمام بالمحيط الاجتماعي، وقلما نعنى بما تقتضي به اللياقة. أقول هذا وليغضب القارئ العزيز ما شاء له غضبه، فأنا متحمس كما ذكرت على غير عادتي، وإن كنت ضناً بصحتي أدعو الله مخلصا ألا يريني بعد اليوم ما يعود بي إلى مثل هذه الحماسة!