وجنتيها النعمة، وغلظت شفتيها اللذة، وسوت خلقها الطبيعة؛ وفتاة (جروبي) في حسي نوارة من نوار الفول أبطأ عن حقله الغيث؛ فهي رقيقة البدن، مخروطة الوجه، دعجاء العين، فاترة اللحظ، طويلة الأنف، ظمياء الشفة، حلوة الافترار، هواها أكبر من جثنانها، وقلمها أجرأ من لسانها، وخبرها أضخم من عيانها؛ ولكنها على الجملة وضيئة الطلعة، مليحة القسمات، لطيفة الروح، تحمل الرجل بصباحة وجهها وصراحة قلبها على أن يأنس بها إذا حضرت، وأن يفكر فيها إذا غابت.
قلت لها بعد التحيات المنوعة والترحيب المكرر والأسئلة المعتادة: لقد انقطعت رسائلك عني منذ شهر فلم أعرف الأسباب التي أقدمتك إلى القاهرة؛ وما احسبني أعلم أن لك هنا أقارب تصلين رحمتهم بالزيارة، وتمنحين كرمهم بالضيافة. فلعلك قدمت مع أخيك أو بعض أهلك لغرض من الأغراض الخاصة أرجو ألا يكون من بينها المرض. فقالت الفتاة وقد أرسلت نفسها على سجيتها بعد احتشام من اللقاء الأول لم يدم طويلاً: ليس بجسمي والحمد لله ما أشكوه؛ ولنا في حي المنيرة منزل موروث تقيم فيه أختي الكبرى وزوجها وابنتاها، فأنا نازلة عليها به، ومطمئنة إلى حياتي فيه. وأما سبب قدومي فله حديث عرفت بعضه وغاب عنك بعضه، ولو كنت مطلقة اليد لما انقطعت رسائلي عنك، ولا التبست أموري عليك. ذكرت لك في رسالتي الأخيرة - لو تتذكر - ما كان بيني وبين ابن البستاني، وكيف استرقت زوجة أخي هذا السر من أفواه الخدم وأفشته إلى زوجها، وما أعقب ذلك من الضرب المبرح، والحجاب الكثيف، والمراقبة الشديدة. وكنت أظن أن لذلك العقاب حداً يقف عنده ووقتاً ينتهي فيه؛ ولكن العذاب أشتد وأمتد حتى ضاق مكاني في البيت، وساء مقامي في الأسرة؛ فأخي يعاملني بقسوة، وزوجته تكلمني بجفوة، وخادماته القرويات ينظرن إلي بازدراء. ومما سود نهاري وأطال ليلي أن أخي صادر بريدي فحرمني أن أقرأ ما أحب، وأن أكتب إلى من أريد، فأصبحت كسجينة الزنزانة محرومة من اعتبار النفس واستشعار الأنس واستحضار الوجود.
كان لا بد للإناء أن يطفح، وللجلد أن يهي، وللصبر أن ينفذ، فوطنت نفسي على الفرار إلى القاهرة. ولكن كيف الفرار وليس في يدي مال ولا في قدرتي مشي ولا في أسرتي مساعد؟ الأمر سهل! بين العزبة والقرية مسافة قصيرة وسكة معبدة، وبين أخي وعمدتها صداقة