وثيقة ومعاملة متصلة. وهو يعرفني منذ أن كنت طفلة، ويسأل عني كلما زار الأسرة؛ فإذا ذهبت إليه وطلبت منه باسم أخي بعض المال فما أظنه يمتنع أو يتلكأ أو يستريب. على أن معي خواتمي وأساوري فأستطيع أن أستعين ببعضها إذا حبطت هذه الخطة. وفي تباشير الصبح قبل أن يتيقظ البيت ويسرح الفلاحون وضعت ألزم أشيائي وأخفها في حقيبة صغيرة، ثم تسللت إلى الطريق الذاهب إلى القرية، وكانت الأرض قد طلنا الندى، والنبات قد كلله الحباب، والطبيعة الراقدة تحت جنح الليل قد أخذت تستفيق وتنتعش وتتحرك؛ فالطير تصدح بأغاريد الصباح، والشجر يتجه بالتحيات إلى الشمس، وآحاد من الفلاحين المبكرين ينقلون كالأشباح خطاهم الوئيدة على ضفاف القنوات وحواشي الزروع، وأنا في هذه الصحوة الجميلة أسير بين حقول القمح خائفة مسرعة، أترقب كل أمر، وأتأهب لكل طارئ، فأعد لكل سؤال جواباً، ولكل تصرف علة. وستر الله علي حتى بلغت القرية وطرقت باب العمدة، فتلقاني أهله بوجوه منطلقة وصدور رحبة، ثم قدموا إلى الفطور فملت منه ما ينال العجلان القلق. ثم دخلت على العمدة في غرفته وقلت له: أن أخي غائب في المدينة، وقد أبرقت أختي إلي تنبئني أن ابنتها في نزاع الروح وأنها في حاجة إلي، فلا بد من سفري في قطار الصباح وليس معي نقود فما كان جواب الرجل إلا أن قدم إلي عشرة جنيهات وأمر الحوذي أن يهيئ لي العربة.
دخلت القاهرة عشية يوم الأحد الماضي، وكان حالي وأنا أسير في زحمة الخارجين من المحطة حال الهارب من السجن، يتوهم في كل مكان جاسوساً يسمعه، وفي كل طريق شرطياً يتبعه. فلم تكد عيني تقع على سيارة عامة بجانب الإفريز حتى دخلت فيها وقلت للسائق: المنيرة، شارع كذا، رقم كذا. وما هي إلا عشر دقائق حتى وقفت السيارة أمام البيت، فصعدت الدرج، وغمزت الجرس، فأسرعن أختي في لهفة إلى باب الشقة وفتحته وهي ترتجف، وعانقتني وهي تنتحب! وكان مبعث ذلك كله أن أخي أرسل برقية إلى زوج أختي يعلن إليه هربي، ويلح عليه في طلبي، فساورت أختي الهموم، وتنازعتها الظنون، وعللت هذا الهرب بما أقاسيه في العزبة من العدوان المستمر، والحرمان المتصل؛ لأن أخي لا يهتم بها فهي تسيء به الظن، ولأن امرأته لا تخف على قلبها فهي تعتقد فيها الظلم! وقويت أنا في نفسها هذا التعليل بما افتريت من الأكاذيب واختلقت من المظالم.