الكون وخفايا الوجود حيناً آخر، واستمر على ذلك زمناً طويلا لا يزاول من أساليب الحياة إلا هذا الأسلوب المماثل الذي لا فرق بين أمسه ويومه وغده. . . وأخيراً شعر ذات ليلة وهو سابح في بحار الفكر والتأمل أن المعرفة قد انقذفت إلى قلبه دفعة واحدة، وأن أداء واجبه منذ اليوم لم يعد يتحقق بالنسك والتأمل فحسب كما كان قبل ليلة المعرفة، وإنما اصبح يتناول إلى جانب ذلك شيئاً آخر، وهو التبشير بمذهبه في كل مكان، ومحاولة غرسه في كل قلب، فهب لساعته يصدع بديانته الجديدة جهراً وفي غير مبالاة، وسرعان ما تجمع حوله عدد من الشباب والشيوخ يتشربون تعاليمه تشرب الأرض اليابسة للمياه، ثم جعل عدد هؤلاء التلاميذ يزيد شيئاً فشيئاً وأخذت هذه الديانة تعم ويتسع نظامها حتى بلغ عدد معتنقيها نحو أربعمائة وسبعين مليونا من الأنفس في الشرق الأقصى
كان بدء بوذا في الصدع برسالته على رأس العام السادس والثلاثين من عمره، فظل جهاده في نشرها زهاء أربع وأربعين سنة لم ينضب أثناءها لنقاشه نبع، ولم يخفت لتبشيره بدينه صوت، ولكن لم يثبت عنه أثناء هذا الزمن الطويل الذي قضاه في نشر رسالته أنه غضب مرة واحدة مع مناقشه، بل كانت الرحمة والعطف يفيضان من أساليبه في مختلف الظروف ومتباين الأحوال لا فرق بين أن يكون مناقشه من تلاميذه المحبين أو من خصومه الحاقدين.
وأخيراً توفى هذا الحكيم حوالي سنة ٤٨٠ قبل المسيح عن ثمانين عاما قضاها بين الزهد والتقشف والدعوة لديانته الجديدة، وكان موته بين جمع من تلاميذه الأصفياء - مثال البساطة البعيدة عن جميع مظاهر الجلال التي تحوط عادة آخر ساعات عظماء الرجال
شخصية بوذا بين الشك واليقين
سأل الملك (ميلاندا) أحد ملوك الهند الأقدمين الحكيم (ناجازينا) وهو أحد أتباع البوذية قائلا: (أيها الحكيم المحترم هل رأيت بوذا؟) فأجاب الحكيم: (كلا يا صاحب الجلالة). س:(وهل أساتذتك رأوه؟). ج - (ولا أساتذتي يا صاحب الجلالة) قال الملك: (إذاً، يا ناجازينا، فليس هناك بوذا ما دام لم يقم على وجوده برهان قوي). فلما سمع الحكيم (ناجازينا) هذا الاعتراض الذي وجهه الملك إلى إلهه، وكان حقا لا يملك على وجوده برهانا مباشرا، شرع يدلل عليه بآثاره الكونية فقال: (إذا غاب بوذا عن الأنظار، فهنالك آثاره التي أنشأها،