إن ميدان الدعوة إلى الله لا يكون بالطبيعة إلا في بلاد الوثنية والجهالة. هنالك يجد المجاهدون في سبيل الحق والخير ملايين من عمي القلوب يخبطون الظلام ويطئون الشوك ويعانون الحيرة ويكابدون اللغوب، فيخرجونهم إلى نور الله ويلحقونهم بركب الإنسانية. ولكننا لا نرى جمهرة المبشرين ولا معركة التبشير إلا في مصر، كأنما انحصر جهد هؤلاء المتعطلين في فتون المسلم عن دينه، وإخراج المسيحي عن مذهبه! فهل حسب أولئك الناس أن الإسلام بالنسبة إلى المسيحية كفر، وأن الأرثذكسية بالقياس إلى البروتستانتية فسوق؟ لا يمكن أن يقع هذا في حسبان عاقل؛ والقوم قد جاوزوا العقل والفطنة إلى الدهاء والخبث؛ فهم أكيس من أن يجهلوا حقيقة الإسلام وينكروا أثره الإلهي المحمدي في تكريم الإنسان وتنظيم العيش وإصلاح الأرض؛ ولكن الأشبه بالحق أنهم اطمأنوا إلى العيش الغرير في ظلال النيل، فأمنوا وسمنوا وخاروا، وعز عليهم أن يبعدوا عن مصاب الدولار والجنيه والفرنك في بنوك القاهرة، فأدخلوا في روع الشيوخ والعجائز من المؤمنين المثرين في أوربا وأمريكا أن البلد الذي يقوم فيه الأزهر هو المكان الذي لا يزال يصلب فيه المسيح. واستعانوا على خديعتهم بما افتراه قساوسة القرون الوسطى على الإسلام من الزور الغبي والكذب الأحمق. وأوهموهم أنهم إذا أمدوهم بالمال ورفدوهم بالنفوذ جندوا الجنود، وأحكموا الخطط، وهجموا على الإسلام فصرعوه في عقر داره من أجل ذلك كان المبشرون حراصاً على أن يجمعوا الأزهريين للمناظرات أو المحاضرات بشتى الحيل؛ فإذا ما اجتمعوا أخذوا صورهم في أروقة الكنائس أو في أفنية المدارس، ثم بعثوا بها إلى مرسليهم ومموليهم مدسوسة بين صحيفتين بارعتين إحداهما تبشر بتنصير (العلماء)، والأخرى تلح في مضاعفة الجزاء!
وفي سبيل أن ينعم المبشرون بالطعام الدسم، والشراب السائغ، والفراش الوثير، والفراغ الوادع، تتمزق العلائق بين الأخوة في النسب والوطن والعقيدة، وتكون الجفوة بين المسلم والقبطي في مصر، وبين المسلم والماروني في لبنان!
إن التبشير عدو للسلام، لأنه تأريث للعداوة وتشتيت للوحدة في غير طائل. وهو في مصر عمل لا يليق، لأنه إهانة وقحة لدينها وعقلها، وإن لهما في تاريخ الحضارة والثقافة والمجد صفحات لا يزال إشراقها السماوي يضئ جوانب الحاضر ويبدد غياهب المستقبل