ولما لم ير مساعدة من قومه وجه وجهه شطر الاستعانة بغوث أجنبي، وتردّد بين قيصر الروم وكسرى فارس، فمضى أولاً إلى القسطنطينية فردّه القيصر خائباً، فطلب من والي الحيرة العربي الذي كان خاضعاً لفارس أن يقدّمه إلى بلاط المدائن؛ ولكن كيف استطاع أن يكسب عطف الملك الساساني أنو شروان الملقب بالعادل حتى أرسل معه ثمانمائة مقاتل من نزيلي السجون ممن أطلق سراحهم؟ وكيف أبحروا معه إلى اليمن وعلى رأسهم قائد طاعن في السن؟ وكيف أحرقوا مراكبهم واستمدوا من اليأس قوّة، وكيف هزموا الأحباش هزيمة منكرة وطردوهم واستردوا اليمن وجعلوها ولاية فارسية. . . كل هذا يسوقنا إلى سرد قصة آثرت تخطيها وإغفالها في مثل هذا المجال، لأنها تتصل بتاريخ الفرس أكثر من اتصالها بتاريخ الأدب العربي، تلك الأمور التي قامت - كما رجّح نلدكه - على أخبار لقنها الغزاة الفرس الذين استوطنوا اليمن لأبنائهم الأشراف، الذين يسميهم العرب الأبناء أو بني الأحرار.
وإنا لنترك الآن مملكة اليمن وقد تهاوت دعائم قوتها ودالت دولتها وسقطت من علياء مكانتها إلى الأبد، ونعود من ناحية الشمال في دراسة التاريخ العربي:
الفصل الثاني
تأريخ العرب الوثنيين وأساطيرهم
يسمى المسلمون الفترة الواقعة منذ فجر التاريخ العربي حتى ظهور الإسلام بالجاهلية، وقد ورد هذا اللفظ في أربع فقرات في القرآن، ويقصد به عادة (الجهل)، وإن كان جولدزيهر قد أوضح أن المدلول الذاتي لكلمة (جهل)(الذي اشتقت منه الجاهلية) عند شعراء ما قبل الإسلام لا يقصد به (عدم المعرفة) أو (الوحشية) و (الهمجية)، وليس المعنى المضاد لكلمة (علم)، ولكنه عكس معنى حلم المعبّر عن التهذيب الأدبي عند الرجل المثقف. (وحينما يقول المسلمون إن الإسلام قضى على طبائع وعادات الجاهلية فانهم يقصدون بذلك العادات المستقبحة، وهذا الخلق الهمجي الذي تفترق به الوثنية عن الإسلام، وبالمستهجن من الطباع التي جدّ محمد (ص) في استئصالها من نفوس قومه: كحمية الجاهلية، والعصبية القبلية، والجد في طلب الثأر، والحقد، وغير هذا من طبائع الوثنية المستهجنة التي قضى