المنظم يعمل في تنظيم اللغة - وكذلك العكس - وان المتكلم إذا تحدث باللغة الإنجليزية أو الفرنسية خضع لمنطقها وطرق تفكيرها كما يخضع لاختيار كلماتها، واختيار أساليبها وكيفية معالجة الموضوع، فيؤثر ذلك كله في تفكيره وجدله وحججه، وعلى الجملة فهو يحاول أن يكون إنجليزيا أو فرنسيا في تفكيره كما هو إنجليزي أو فرنسي في لغته - يشعر هذا تمام الشعور من أجادوا لغتين أو أكثر، فهم إذا تكلموا بلغة أجنبية راقية شعروا مثلا - بأن هناك غرضا محدوداً واضحا يرمون إليه في حديثهم وحججهم وانهم يضعون لذلك خططا ثابتة معينة تشبه خطط الحرب يضعها قادتها لتسلم كل خطوة إلى التي تليها، أو كالخطط التي يضعها، لاعب الشطرنج الماهر إذا لعب لعبة علم ماذا يريد منها وما هي الألعاب التي تترتب عليها فتنتج الفوز، وهو هو إذا تكلم باللغة العربية لم يتضح القصد له وضوحه باللغة الأجنبية، ولم يرتب حججه ذلك الترتيب الذي يرتبه باللغة الأجنبية - ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن مجيد اللغتين كثيرا ما يفكر باللغة الأجنبية، ويترجم تفكيره إلى اللغة العربية، وقلما يعكس، مع أن اللغة العربية هي لغته الأصيلة، وهي التي نشأ عليها وتربى في أحضانها، فكان معقولا أن تكون هي لغة تفكيره فإذا عبر بلغة أجنبية نقل تفكيره إليها - وليس من الهين تعليل هذه الظاهرة، ولكن يمكن أن يقال أن السبب في ذلك أن اللغات الأجنبية الراقية قد استكملت أدواتها، من حيث الألفاظ الموضوعة لكل آلة مخترعة ولكل معنى مستكشف، كما استكملت أدواتها من حيث أساليب التفكير وصياغة المعاني صياغات مختلفة، أدخل في الذهن، وأقبل للعقل، وأجمل في الذوق، وأن اللغة العربية أبطأت في تاريخها الحديث ولم تسرع في السير، برغم ما يقوله الدعاة من أنها أغنى اللغات وأجمل اللغات، ثم ينامون على ذلك من غير أن يعملوا على تكميل نقصها، ومعالجة ضعفها، وكيف يعمل على معالجة الضعف من لم يشعر بألم المرض؟ وكيف يعمل على تكميل النقص من لم يشعر بنقص؟ - لهذا كان فكر المفكر إذا أجاد اللغتين يتبع - من غير اختيار - أرحبها صدراً وأغزرها مادة وتعبيراً.
وسبب آخر: وهو أن الأمم الأجنبية الراقية قد مرنت طويلاً على المجالس النيابية والمناظرات المدرسية والجامعية، وتكونت لها مع طول الزمن تقاليد معروفة مألوفة غير مكتوبة، وأثرت في جدلهم ومناظراتهم ومجالسهم أثراً كبيراً، كما أثرت في طرق تفكيرهم