ثم - مما لا شك فيه - أن هناك ارتباطاً قوياً بين اللغة والخلق، فلست تجد في لغة أجنبية من ألفاظ الملق وعباراته ما تجده في اللغة العربية مما أدخله عليها الفرس والأتراك، ولا تجد من عبارات الحشو التي تدل على الذل والخضوع ما تجد في لغتنا العربية الحديثة كانت اللغة ديمقراطية شريفة نبيلة يوم كانت اللغة العربية لغة العرب الديمقراطيين الذين لا يفرقون كثيراً بين مخاطبة الأمير ومخاطبة بعضهم بعضاً، ثم أصبحت لغة العبيد يوم تسرب إلى أهلها الذل والعبودية - لقد جلست أول أمس إلى رجل يحدث (باشا) فكان ما أحصيت في حديثه من (سعادة الباشا) أكثر من كلماته في الموضوع - ومالي أذهب بعيداً - مدلول الكلمة في اللغة العربية أصبح غير مدلوله في اللغة الأجنبية، فإذا قال الألماني أو الإنجليزي (نعم أفعل) لم تدل على نفس المعنى الذي يقوله المتكلم باللغة العربية (نعم أفعل)(فنعم أفعل) العربية تدل على قد يفعل وقد لا يفعل - والسامع إذا سمعها شك في مدلولها (هل يفعل أو لا يفعل) فاحتاج إلى أن يكرر عليه الطلب والرجاء. واحتاج المتكلم أن يعيد (نعم أفعل) وربما أقسم، وربما استعمل كل صيغ التأكيد، وهي بعد هذه الأيمان وهذه التأكيدات كلها لا يزال مدلولها أنه قد يفعل وقد لا يفعل - وهو إذا لم يفعل لم يخجل، لأنه حقق وجهاً من وجوه الجملة - بل المتكلم الشرقي إذا قال (سأفعل) باللغة الأجنبية كانت أقوى في نظره وأكثر التزاماً مما إذا قالها باللغة العربية، والمتكلم هو هو، لم يتغير في الكلمة إلا التعبير عنها بإحدى اللغتين، فإذا قالها العربي لأجنبي كان لها أشد احتراما ولتنفيذها أشد رغبة وأقوى إرادة - أليس في هذا كله دليل على شدة الارتباط بين اللغة والعقل واللغة والخلق، وأن العقل واللغة والخلق كلها تتفاعل، فإذا رقيت اللغة تبعها - نوعاً ما رقي العقل والخلق، وإذا رقي العقل تبعه - نوعاً ما - رقي اللغة والخلق، وهكذا. ومن هذا تنتج معادلات جبرية معقدة الحل.
إن الغيرة القومية والنهضة الشرقية تتطلبان أن يعنى قادتها بهذه المظاهر، وأن يضعوا للأمة تعاليم جديدة في اللغة والتفكير، فهم مطالبون بكل الوسائل أن يميتوا ألفاظ الملق من اللغة العربية ويحيوا ألفاظ الأدب النبيل، وأن يربطوا أشد الربط بين الألفاظ ومدلولاتها، فلا يسمحوا أن يضيعوا مدلول الألفاظ كما هي ضائعة اليوم - وأن يضربوا الأمثال