ولما ذهب إلى الإسكندرية سمع الأنماطي وغيره، وسمع بمصر أبا الحسن الخلعي وغيره، وبدمشق غير واحد، ولقي ببغداد أبا حامد الغزالي وغيره، وفي لقائه الغزالي يقول في كتابه قانون التأويل:(ورد علينا ذا نشمند - يعني الغزالي - فنزل برباط أبي سعد بازاء المدرسة النظامية معرضاً على الدنيا مقبلاً على الله تعالى فمشينا إليه، وعرضنا أخيلتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه علي بن العباس - ابن الرومي - لما قال:
إذا ما مدحت امرأ غائباً ... فلا تَغْلُ في مدحه واقصِدِ
فإنك إن تَغْلُ تَغْلُ الظنو - ن فيه إلى الأمد الأبعد
فَيَصغُرُ من حيث عَظّمتَه ... لفضل المغيب على المشهد
ثم حج في موسم سنة ٤٨٩ وسمع بمكة أبا علي الحسين بن علي الطبري وغيره، ثم عاد إلى بغداد ثانية وصحب أبا بكر الشاشي وأبا حامد الغزالي والخطيب التبريزي وغيرهم من العلماء والأدباء وقرأ عليهم الفقه والأصول والأدب، وقيد الحديث وإتسع في الرواية وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام (علم التوحيد) ثم صدر عن بغداد إلى الأندلس وعاج على الإسكندرية وأقام بها مدة عند أبي بكر الطرطوشي فمات بها أول سنة ٤٨٣ ثم انصرف هو إلى الأندلس سنة ٤٩٥ وقدم بلدة أشبيلية بعلم كثير لم يأتي بمثله أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق - إلا الإمام الباجي كما يقول المترجم من كلمة له - وسنترجم للباجي - وكانت رحلة علماء الأندلس وأدبائها إلى المشرق - إلى أفريقية - تونس والجزائر - ومصر والشام والعراق والحجاز، وإلى خراسان وما إليها بل وإلى الهند والصين أحياناً - في حركة ودؤوب عجيبين، لا يكادان يفترقان على بعد المشقة وصعوبة المواصلات واختلال الأمن، كما كان كثير من المشارقة يرتحلون إلى الأندلس، غير أن رحلة الأندلسيين إلى المشرق كانت في الأعم الأغلب لنشدان التبحر في العلم والأدب واللغة والارتواء من سلسبيلها الثر الفياض إذ الأندلسيون يعلمون أن المشرق هو مهد العلوم والمعارف، فكانوا لذلك يقفون من المشارقة موقف الأبناء من الآباء، أو التلاميذ من الأساتيذ. كما كان من أغراضهم تأدية فريضة الحج. أما المشارقة فقد كان ارتحالهم إلى