تحطيم السلاسل التي تقيدها وتمنعها من ارتياد منهل الحرية عذبا نميرا. وقد رأينا منذ زمن كيف ابتدع بعض الشعراء نظم القريض مرسلا، من غير قافية ثابتة؛ لكن مع الاحتفاظ بالوزن. وكان لهذا الضرب من القريض أنصاره، الذين نادوا بأنه سيرقى بالشعر العربي إلى سماء ما طاولته سماء. ثم لم تلبث تلك النار أن باخت، وتلك الأصوات أن خفتت. وأصبحنا اليوم وأكثر الأدباء متفق على أن إرسال القافية لا يلائم الشعر العربي؛ فلم نكد ننعم بتلك الحرية حينا حتى عدنا بأنفسنا طائعين إلى حمل السلاسل والأغلال، مضحين بتلك الحرية العروضية التي لم تنتج لنا الا كل فاتر تمجه النفس.
ثم جاءت بعد هذا بدعة أكبر وأخطر. وهي بدعة (مجمع البحور) التي وصفناها. ومما يؤسف له أن يكون شاعر من أجلّ الشعراء شأنا وهو (شوقي) على ما به من قدرة ومكانة، وهو الشاعر ذو النفس الطويل. الذي ما كان يعييه أن ينظم فيطيل ما شاء الإطالة. وهو الذي نظم (صدى الحرب) و (مقدونيا) و (نهج البردة). أنه برغم هذا رأى الا يلتزم وزنا واحدا في روايته التي كتبها أخيرا. فأحياناً كان شخص من أشخاص الرواية يسأل السؤال في وزن، فيرد عليه بوزن آخر. وكثيرا ما ينتقل المتكلم إلى وزن جديد، وموضوع الحديث لم يتغير.
لقد قيل أن لشوقي في ذلك أسوة بكبار الشعراء الروائيين أو القصصيين، وهذا ليس بصحيح. فان جميع روايات شكسبير من وزن واحد وهو المسمى وملحمتا هوميروس كلتاهما من بحر واحد، والفردوس الضائع لملتون كلها من وزن واحد. والشهنامة والمثنوي كلها ذات وزن واحد. وبرغم ما قيل وما يقال عن روايات شوقي، فان كثيرا من الناس يقر بأن هذا الإكثار من الأوزان قد افقدها قسطا كبيرا من الحسن.
ونحن نسوق هنا على سبيل المثال قطعة من (قمبيز) وهي الرواية التي تفوق صواحبها في هذا الأمر.
جاء في المنظر الأول من الفصل الأول الحوار الآتي بين نتاتس وعمها فرعون (أمازوس):
نتاتس: نفريت يأبى المسير هب لي ... مكانها منك يا أمازوس
فرعون: أنت التي تذهبين، نتاتس: لم لا؟ ... فرعون: هذا هو النبل يا نتاتس