للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

- ١ -

لم تكن نهاية عمر نيتشه إلا معركة متصلة الأسباب، يشنها صاحبها على الداء الذي خامره، يصرعه حيناً وحيناً يصرعه. وهو خلال ذلك يطول صراعه ويمتد نزاعه، يحول الداء بينه وبين إتمام عمله الذي تصدى له، ولا يشعر بالمجد الذي صار يركض إليه في أصقاع العالم

هذه الفلسفة الغريبة الشاذة قد شك عند مناقشتها النقاد الذين لم تتسع لها عقولهم، فقالوا عنها: إنها فلسفة طائشة جاء بها مجنون، قد تمخض بها الجنون فناً من قبل! وهؤلاء قد ظلموا الرجل ميتاً كما ظلمته الطبيعة حياً، على أن شذوذ هذه الفلسفة لا يدعو إلى حسبانها فلسفة مجنونة، فقد كتبها صاحبها واعياً وغالب بها ألمه قبل أن يستحيل إلى جنون، ومهما ذهب النقاد في تعليل جنون نيتشه: أهو جنون اكتسابي أم وراثي، فان الرجل قد استطاع بما أوتي من عبقرية سامية أن يحدث في صفحة الحياة أمواجاً عنيفة بالحجر الذي ألقاه. وبهذا لا ينبغي لنا أن نعتقد أن الجنون أثر في آثاره وهو الذي دل على وعي خارق في أحدِّ نوباته وأعنف آلامه

- ٢ -

أراد نيتشه آلامه، وعمل على تحملها غير مستثقل ولا مستضعف، يحولها إلى الحاجة التي يريدها ويستخلص منها ما يلائم حياته. فإذا لم يكن هذا الرجل جديراً بالرأفة والشفقة لأنه لا يريدهما؛ فهو جدير بالاحترام. والبطل يحترم مستلئماً ومكفَّناً

أول نعمة احتسبها للألم أنه أنقذه من مهنة التعليم ودراسة اللغات المندثرة، إذ أخذ يحس أن هذه المهنة برغم شرفها لا تتلاءم والغرض الذي تتوق إليه روحه. فهو فيلسوف قبل أن يكون عالماً بدراسة اللغات. وأخذ يشعر بأن وفاءه لهذه المهنة دفعه إلى قتل أزهى أيامه وتعطيل دراساته، فما أثقل اليوم على ظهره هذه الأعباء! فجاء الداء وأجبره على تحطيم كل حلقة تربطه بالماضي الذي أصبح يعده غريباً عنه وهو منه. جاء فبدل حياته بحياة ثانية تختلف مظاهرها، وألقاه في عزلة عميقة لا يقر فيها إلا إلى نفسه لأنها حرمت عليه الانكباب على المطالعة والانصراف إلى الدرس. فهو اليوم وحيد مع نفسه، أمام نفسه. يسمع نداء من كان في أذنه وقر عنها. فرحت اليوم نفسه بعودته إليها، بأوبته إلى العزلة

<<  <  ج:
ص:  >  >>