والراحة الخالدة: هذه النفس التي كادت تقتلها الحادثات وتطغي عليها جبلة المجتمع قد نفضت عنها الأكفان ورفعت صوتها الرنان (ما تذوق يوماً من السعادة ما تذوقه خلال أيام دائه لأنه عاد إلى نفسه. وهذه العودة إليها كانت شفاءه. وهذا الشفاء يتلوه شفاءه المادي)
على أن الداء لم يزد نيتشه إلا احترازاً في النظر إلى مسائل الكون والحياة، وهو عاكف على التطلع إلى هذه المبادئ الفلسفية، ولكن يراها بمجموعها جملة مبادئ هي حقائق بعينها؛ اطلع إليها كأنها ابنة طبع مبدع وشخصية مبدعة، ومما ينبغي أن ينظر إليه بعين الاعتبار مسألة تأثير الصحة والسقم في العقل البشري، فإذا تألم جسدنا - وهو العقل الأكبر - فالعقل الصغير لابد متأثر بما نزل بالعقل الكبير، وإذ ذاك يسأل السائل: هل هذا المذهب علامة من علامات صحة صاحبه أو انحطاطه؟ وقد أيقن نيتشه بأن السقم زاده احتراساً وانتباهاً من سلطة الأخلية والأوهام التي تتولد عادة عند من راقت لهم صفحة الحياة وبهجة الدنيا (بلى! إنني أدرك أن الألم لا يحمل الإنسان إلى المقام الأحسن، ولكن الألم ينحدر بنا إلى أعماقنا!)
والإنسان الذي يريد أن يناضل ما ينتابه من قلق جسماني متسيطر ينبغي له أن يفرض على نفسه قوة يقهر بها نفسه، تخرج منها إرادته المتمرنة ظافرة كما يصنع الهندي المستسلم لألوان من العذاب، أو أن يستسلم لزهد مطلق واعتزال كامل وهجر للإرادة، والإنسان الذي يتمكن من هذا الامتحان يقضيه من غير ضعف، يتعلم منه أن يتأمل مسائل الحياة بوضوح وجلاء، لا يخدعه عن حقيقتها شيء؛ فهو يأبى أن تصرفه عن حقيقة الوجود هذه التشابيه والخزعبلات المغرية، وكأن دافعاً للانتقام والثأر من الحياة يتحرك في طوايا نفسه، يريد أن يستبدل بها آلاماً تتولد له حين يقابلها وجها لوجه يميط عن وجهها النقاب. وينزع كل زينة خادعة تتبرج بها لإغواء الناس؛ وهو إذا أحب الحياة بعد ذلك فانه يحبها كالعاشق الغيور المتحرز، حبك لامرأة خدعتك وأصبحت مثار الشك عندك
يلاحظ نيتشه أن الألم هو الذي جعله متفائلاً، والسقم قد علمه ما يبلغ تأثير الانحطاط الجسماني في عقل المفكر، ولاحظ به كيف يسعى الألم إلى قهر عزة النفس العقل الفلسفي ورد هذه العزة ضعفا وذلة وحزناً وكآبة. وأدرك ما هي المواضيع والزوايا السماوية التي يلجأ إليها عقل المرضى والمنحطين سعياً وراء ما يخفف عنهم من فاقتهم وكآبتهم. وأدرك