وكان المازني يمنح نفسه حرية المتشرع في فهم المسائل وإدراكها على الوجه الذي يسوغ في الذوق والعقل دون التعبد بآراء السلف. ومن أثر ذلك: تفسيره للحديث المشهور (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) بأن المراد منه: إذا كان الفعل الذي تريد إتيانه لا يستحيا من مثله فاصنع منه ما شئت. وهو رأي حسن لم يسبق إليه
ولهذا الاستقلال الفكري الذي عرف به، كان المبرّد يقول: ما رأيت نحوياً أشبه بفقيه من المازني!
وللمازني رأي غريب في جماعة المشتغلين بالعلوم يحسن أن نورده لطرافته ولدلالته على شغف الرجل بدراسة أخلاق الناس، ودقة فطنته إلى ما يتمايزون به من صفات. يقول: - وقد سئل عنهم - أصحاب القرآن فيهم تخليط وضعف، وأصحاب الحديث فيهم حشو ورقاعة، والشعراء فيهم هوج، وأصحاب النحو فيهم ثقل، وفي رواية الأخبار: الظرف كله. والعلم: هو الفقه
وقد يكون المازني جانب الصواب في بعض هذه الأحكام، ولكنه قد صدق على الأقل في حكمه على النحويين!
ومن نوادره السائغة قوله: مررت ببني عقيل فإذا رجل أسود قصير أعور أبرص أكشف قائم على تل سماد وهو يملأ جواليق منه، ويتغنى بأعلى صوته:
فإن تصرمي حبلي وتستكرهي وصلي ... فمثلك موجود ولن تجدي مثلي
فقلت له: صدقت. ومتى تجد - ويحك - مثلك؟! فقال: بارك الله عليك! واسمع أخيراً. ثم اندفع يغني:
يا ربة المِطْرف والَخلخال ... ما أنت من همي ولا أشغالي
مثلك موجود ومثلي غالي
ويمتاز المازني بسمة واضحة عرف بها شيخ شيوخه الخليل ابن أحمد، وهي القناعة بالكفاف، والميل إلى العزلة والانفراد، والأنفة من التكسب بالعلم، وإيثار البعد عن الخلفاء وحاشيتهم والزهد في احتجان جوائزهم وصلاتهم ما لم يتقدموا بأشخاصه إليهم رغبة في الاستفادة منه، فيصدر عنهم معزّزاً مكرماً.
ومع أنه من المتعارف لدى الناس أنه قلّما يكون النحوي دّيناً. فقد كان المازني ثقة في دينه