للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأمامي الآن - وهنا أشار إلى لوحته - منظر فتاة حسناء تقطف من خميلة وروداً زاهية حمراء. فأيهما أجمل وأنضر وأحلى وأملح؟ هذه الورود في يديها أم هذه الحمرة في خديها؟. إن حمرة خديها الملتهبين بدماء النضارة والصبا حرام أن تشبه بحمرة الورد. فليس في الورد خدود تلتهب التهاباً، ولا وجنات ترف نضارة وشباباً. وكيف يستوي خد الورد البارد الجامد الذي لا يحرك إحساساً ولا يثير عاطفة، وخد الفتاة المضرم من نار الصبى، المتوهج من حرارة العاطفة، المشبوب من خمرة الروح، المطلول من ندى الشهوة، يثير في كل قلب ألواناً من المشاعر الراقدة، وضروباً من الأحاسيس الهامدة؟

وعيون النرجس على ما بها من جمال وتناسق بليدة جامدة فليس فيها هدب طويل يثير، ولا جفن كحيل يغري. وأين من مقل النرجس (مغناطيس) العيون (وكهرباؤها) وسحرها وإغراؤها؟

الجمال بسره الكامن وجوهره الرمزي إنما هو فن الروح والعاطفة، فكيف تعبر عنه وردة محمارة أو غصن أملود أو طاقة نرجس أو سبيكة ذهب أو فضة مجلوة أو ما شئت من هذه التشابيه النفسية المادية التي خلقت لإمتاع النظر اللهيف وإرضاء الحاسة الرغيبة؟ أما تمثيل الجمال وتصوير الحلاوة ففن تلعب فيه الروح أهم دور وأخطره، وليست كل هذه التشابيه من فن الروح في مراح ولا مغدي. قلت: ولكن الجاحظ يقول في وصف جارية حسناء (وكأنها طاقة نرجس أو كأنها ياسمينة أو كأنها خرطت من ياقوتة) ثم ينقطع به نفس الوصف فلا يجعل للروح وفنها بالاً ولا ذكراً. قال صديقي ولكن ما عجز عنه الجاحظ من الوصف الروحي للجمال المادي أدركه نابغة كتاب هذا الجيل الرافعي. وهمك به من أديب يستعلن بالأدب العربي على آداب الأمم الراقية ويقول (أنا أدب لغة القرآن).

ولقد لبثت زمناً أبتغي من الأدب العربي صوراً بيانية لوصف الجمال الإنساني تكون في دقة تعبيرها كلوحات الزيت أو صور الفوتوغراف، فلا أظفر منه إلا بهذه الاستعارات (الزهرية) أو التشابيه الجوهرية حتى قرأت للمرحوم كتبه الثلاثة في فلسفة الحب والجمال فألقيت عصاي وآمنت بمعجزات الرافعي.

قال الأستاذ رحمه الله في كتابه حديث القمر:

يا رحمة لهذا الجمال! وجه وضئ الطلعة كأنه السعادة المقبلة يصل إليه دم الشباب من

<<  <  ج:
ص:  >  >>