جواباً، ونستخبر الهاتف (التلفون) فلا نسمع خبراً. ثم أبصرنا علم الثكنة العسكرية التي أمامنا قد نكس، وجاءنا الأمر بتنكيس العلم، وجمع الطلاب في غداة الغد للتشييع. . .
فعلمنا أن الناعي قد صدق، وأن الأمل قد خاب!!.
وخرج المدير وهو الرجل القويُ المكتمل الرجولة ليعلن الأمر. فما تمالك نفسه أن بكى وهو ينعى لشباب المدرسة (الغربية المتوسطة) سيد شباب العرب. وما أمسك الطلاب أنفسهم أن يصيحوا:(وهم ثمانمائة شاب يعدون مثال النظام) صيحة واحدة، وأن يبكوا بنحيب وعويل، وأن يمزق بعضهم ثيابه، وأن يغمى على بعض. وما أكتم القارئ أني حسبت ذلك رياء وتصنّعاً، وكرهته أول الأمر، واشمأزت منه نفسي، ولكني ما لبثت أن أيقنت أنه حق وصدق، وأنه منشأة هذا الحب العجيب للملك الجندي، وهذا الحزن البالغ على وفاته الفاجعة. . .
وخرج الطلاب بعد ذلك، وخرجت على الأثر. فما دنوت من (باب المعظم) حتى سمعت نواح النساء ونحيبهّن، ورأيت الميدان كله ممتلئاً بالناس، يتدافعون ويستبقون إلى البلاط باكين مفجوعين. مشهد للحزن ما أحسب أن أروع منه يكون؛ فخالفت الجماهير وقصدت شارع الرشيد، فلم أبلغ (الصابونية) حتى رأيت مئات من النساء، تحكي ثيابهّن ومظاهرهن الغنى والحشمة، وهن ينشدن شعراً عامياً، أو شبه شعر، ما فهمته ولكني تبينت فيه ذكر غازي وشبابه الغض، وذكر الموت. . . وكلما قلن بيتاً لطمن وجوههن بشدة، وبكين بحرقة وألم. . . فما رآهن أحد إلا بكى أشد بكاء؛ ورأيت من بعد آلافاً من الناس قد حملوا شاعراً عامياً فهو يقرأ لهم شعراً كله تفجع وألم، وهم يلطمون ويضربون صدورهم أو يشيرون باللطم، فلم أطق المسير ولا الشهود فملت إلى المدرسة (الثانوية) وكانت خالية مقفرة، وعلى بابها علمان متشحان بالسواد، فغادرتها أفتش عن أخي أنور العطار. فما هي حتى جمعني الله به. فقلت له: إن المسير في شارع الرشيد مستحيل، والصبر على رؤية هذه المواكب الباكية أشد استحالة، وحسبنا ما في نفوسنا من الألم، فهلم بنا إلى الدار (في الكرخ) فإنها أهدأ. ورأى ما رأيت، فسرنا نؤم الجسر، وكان اليوم عاصفاً مخيفاً، والنهر مضطرباً مرعباً؛ كأن الطبيعة قد روّعها من النبأ ما روّعنا؛ ففقدت هي أيضاً اتّزانها وهدوءها، فما ظننا والله إلا أن الجسر منقطع بنا، لما كان يضطرب ويرقص، وتلعب