الرياح والمياه بالعوامات التي يقوم عليها، ولكن الله سلّم فبلغنا الكرخ، وإذا بالكرخ قد نشرت الأعلام، أعلام (السباية) السود، ودقت طبول المأتم وخرج أهلوها على بكرة أبيهم، مواكب مواكب: النساء ينحن ويلطمن الوجوه، والرجال ينشدون ويضربون الصدور، وقد تعروا وتكشفوا فعل المتهيئ للصراع، حتى رأيت الصدور وهي من الاحمرار كأنما دامية. والأطفال، يا لله ما فعل الأطفال! لقد تعروا مثلما فعل الرجال، وطفقوا يضربون صدوراً علم الله أنها ما تحمل الضرب ولا تطيقه. . . وكانت المواكب في كل شارع، وفي كل زقاق. فكلما تركنا واحداً منها اصطدمنا بآخر، حتى أزمعنا آخر الأمر أن نعود إلى جانب الرصافة من الجسر الآخر، فما بلغناها حتى رأينا فيها ما أنسانا فعل أهل الكرخ، وكان كل موكب يحمل صورة للملك الشاب مجللة بالسواد، وينشد أشعاراً لم أحفظها ولكن فهمت منها كثيراً، فما فهمت مقالة قوم:
الله أكبر يا عربْ ... غازي انفقدْ من دارَهْ
واهتزتْ أركانْ السماء ... من صدمةِ السَّيارةْ
وقول قوم ما معناه: قولوا لفيصل في القبر يستقبل وليده. . . في أشعار كثيرة هذا سبيلها، ولعل القراء لا يدركون قوتها ووزنها، لأني لم أحسن كتابتها ونقلها، ولكنهم لو سمعوها من أفواه أصحابها ورأوا بكاهم، وشاهدوا صدورهم المحمرّة، لعرفوا أي شيء هي، ولعلموا أن بغداد تعرف كيف تفرح وكيف تغضب وكيف تحزن!
ومن أعجب ما شاهدت فتيات المدارس وهن يلطمن وجوهاً يؤذيها المسّ، ويدميها النسيم، لا يشفقن على أنفسهن، ولا يفتأن ما سرن يَبكين ويُبكين، ويا ليتني فهمت ما كنّ يقلن فإنه أشجى وأعجب مما كان الرجال يقولون!
وبقيت المدينة على هذه الحال إلى صباح اليوم التالي، إلى ساعة التشييع التي أعلن العجز عن وصفها. فلما تم الدفن، وأودع الثرى الملك الشاب الذي كان يفيض قوة وحياة، وحوّمت الطيارات الوطنية تحمل شارات الحزن السود الطوال على الملك الطيّار، وانطلقت المدافع تعلن انتهاء الدفن، وأيقن الناس أن المصيبة قد تمت، وأن الرجاء قد أمحى، أفاقوا كمن يفيق من نومة مزعجة رأى فيها الحلم المروّع، فيرى الواقع أشد إزعاجاً وترويعاً، فأسلموا الأمر إلى الله، وصمتت هذه الألسن التي طالما أنشدت ورثت، وتفجعت، وجفت هذه