للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

في فارس، والرومانية في الشام والقبطية في مصر، وسارت مع الدين جنباً لجنب، كلما ظفر الدين ظفرت اللغة، وكسبت لغتهم قادة الفكر في كل هذه الأمم المفتوحة. فأصبحوا يمنحونها خير أفكارهم وأفكار أممهم، وظلت اللغة العربية تسود حتى نسى كثير من الأمم لغتهم الأصلية، وأحلوا محلها العربية، ولو لم يعتنقوا الإسلام - وان نظرت إلى النظم والتشريع فكذلك، فقد أقلم المشرفون أنفسهم وكانوا حيث حلوا مرنين يقفون موقف المتفهم للموجود من نظم وقوانين ثم يقرون ما لم يتعارض وأصول دينهم، ويغيرون ما تعارض، ووقف الفقهاء في كل قطر يوسعون مذاهبهم حسب الحاجة، وحسب الإقليم الذي حلوه، وخلفوا من كل ذلك قوانين لا تزال إلى اليوم محل إعجاب المنصفين من المتشرعين

وان التفت إلى العلم رأيت أنهم في كل فرع من فروع العلم أخذوا بحظ وافر، لم يمنعهم دينهم أن يأخذوا عن وثنيي اليونان فلسفتهم، ولا عن النساطرة طبهم، ولا عن اليهود ما يروون من أخبار أنبيائهم وعلمائهم، وأبلوا في العلم بلاء لا يقل عن بلائهم في الحرب، فحيث حلوا رأيت علماً كثيراً وجداً عجيباً؛ ثم خلفوا من كل ذلك ثروة فيها غاية ما وصل إليه العلم لعهدهم. فهموا ما كان من علم قبلهم وتداولوه بالشرح والنقد وضموا إليه ما أوحته نظرات دينهم من علوم إسلامية، ومذاهب دينية، وزادوا في ثروة من قبلهم بما بذلوا من جهد وأنفقوا من مال ونفس.

فلئن لم يكونوا سادة العالم فقد كانوا سادة في العالم، وان لم يكونوا رأسه المفكر فقد كانوا رأساً من الرؤوس، لا عبيداً ولا أذناباً، ووقفوا في بعض أيام تاريخهم من العالم موقف المعلم، يرحل من أراد العلم من الأوربيين إليهم، وينقلون إلى اللاتينية كتبهم، ويدرسون في جامعاتهم علمهم - وفي السياسة العالمية وقفوا موقف الموازن، يسمع لقولهم ويحسب حسابهم، وتعقد المعاهدات المحترمة معهم.

ثم دار الزمن دورته وأصبح سادة الأمس عبيد اليوم ورؤوس الأمس أذناب اليوم، وشباب الأمس هرم اليوم، وقضى على حضارتهم ما قضى على حضارة اليونان والرومان، والآشوريين والبابليين، وقدماء المصريين، إلا فرقاً واحداً وهو أن حامل لواء الحضارة الإسلامية لا يزال حياً وان كان شيخاً فانياً، وان الشيخ إن لم يصب بالعقم فقد يلد طفلاً يمر بأدوار الحياة ومنها الشباب، وان الأمم إن لم تمت فلها أيام، فقد يكون للإسلام فجر

<<  <  ج:
ص:  >  >>