وضحى، وعصر وغروب، ولكن لا يلبث الليل حتى ينجلي عن صبح آخر فيه كل صفات الصباح، من نور وضياء، وإشراق يدفع للحركة، ونسيم يبعث الحياة.
وبالفعل يظهر أن هذا الشيخ الفاني قد مات أو كاد، وأن الله فالق الإصباح ومخرج الحي من الميت لم يصبه بالعقم، ووهبه ما وهب زكريا (إذ نادى ربه نداء خفيا، قال رب اني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك وليا. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا. يا زكريا إنّا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا)
ولكن إن ورث (يحيى) من زكريا علماً وحكمة فإني أخشى أن يرث (يحيانا) تركة قد أثقلت بالديون وأفعمت بالمغارم، فهل من سبيل إلى أن يرث من آبائه الأبعدين لا من آبائه الأقربين؟ يحدثنا علماء الوراثة بأن ذلك جائز في قوانينهم، وأن بعض الأبناء يرث من جده الأبعد لا من أبيه الأقرب، إن كان ذلك كذلك فخير له، فأن أباه أشعث أغبر، لوحته الهموم، وأحنت ظهره الأحداث، أما جده البعيد فجميل المُحيا، مشرق الجبين، صارعه الدهر، فصرع الدهر، وأرادت أن تنال منه الأحداث فنال منها، ولكن أنى لنا ذلك، ومربوه من جنس أبيه، فان لم تفسده الوراثة أفسدته البيئة وأفسده المربي وأفسده الموالي من ورائه يكيدون له، ويضعون الخطط تلو الخطط لاغتياله، لا يكون ذلك حتى يرزق (يحيى) بالمثل الصالح، والمربي الصالح، يفتح عينيه ليرى ما حوله، ويضع له البرامج ليعده أن يكون سيداً مع السادة ورأساً بجانب الرؤوس، يبنى صرح المدنية مع بناته، ويشيد العالم مع مشيديه، فأن كان العالم لا يسع إلا مدنية واحدة شارك فيها، وإن كان يسع مدنيتين فاكثر، أسس هو مدنية تتفق وروحه، وعقليته ونفسيته، ودينه وخصائصه.
من نحو خمسة قرون فقد المسلمون مركزهم العالمي، وأصبحوا حيث حلوا عنوان الذل والعبودية، وحلفاء الفقر والمسكنة، ولم يكن تأخرهم راجعاً إلى بيئتهم كما يذهب بعض الباحثين، فهم يسكنون بيئات تختلف حرارة وبرودة، وتختلف خصباً وجدباً، وتختلف جفافاً ورطوبة، وهم من ذلك في مستوى واحد من الضعة والتأخر، على أن الأمر لو كان يرجع إلى البيئة ما تداول عز وبؤس، ونعيم وشقاء، وسيادة الأشراف وصعلكة العبيد، ولكانوا على حال واحد أبداً، لأن البيئة تلازمهم أبداً - كما أن الأمر لا يرجع إلى ما يجري في