عروقهم من دم، فدمهم الذي يجري فيهم اليوم هو من نوع الدم الذي كان يجري في عروقهم أمس، وقد بطلت نظرية أن الله اختار من عباده جميعاً شعباً واحداً عهد إليه تنظيم العالم وسيادته هو الشعب التيوتوني أو الشعب الآري، فليس من أمة إلا وهي خليط من دماء مختلفة ولو كان كذلك لما عزوا وذلوا، وعلوا وسفلوا، وليس أمر المسلمين كذلك يرجع إلى دينهم فدينهم قديماً كان هو سبب سعادتهم وهو الذي انتشلهم من بؤس، وأعزهم من ذل - والدين متى كان صالحاً أسسه كالإسلام كان باعثاً على الأصلاح لا الفساد، وعلى النهوض لا الانحطاط، إنما هو ككل دين يختلف باختلاف العين التي تنظر إليه، فان صلحت العين صلح ما تنظر إليه، وان ساءت ساء، بل قد رأينا في تاريخ الأمم عيناً صحيحة وديناً مريضاً استطاعت العين لصحتها أن تصلح منظره وتجمل شكله
على إني لا أرى أن المسلمين تأخروا وانحطوا بالمعنى الحرفي الذي يفهم من الكلمة أعني الرجوع إلى الوراء، بل كل ما في الأمر أنهم وقفوا حيث كانوا من خمسة قرون، وغيرهم سائرون، وناموا وغيرهم أيقاظ، فلما بدأوا ينتبهون رأوا الشقة بعيدة واللحاق يتطلب عزماً قوياً وجهداً بالغا
مظاهر هذا الوقوف وإن شئت فسمه الركود متجلية في كل مرفق من مرافق الحياة - ففي اللغة وهي أداة الثقافة، وآلة العلم ووسيلة الرقي العقلي - وقفنا حيث انتهى الأمر بالدولة العباسية، ولم نساير الزمن ولم نخط معه خطواته، تغير وجه الحياة، واخترعت ألوف الآلات، ومعاجم لغتنا - كما هي - لا نعترف إلا بما كان، وتهمل ما هو كائن وما سيكون، فلا هي توسعت في مدلول الكلمات العربية ووضعت منها أسماء للجديد، ولا هي سمحت بالكلمات الأجنبية أن تدخل من غير تعديل أو بتعديل، والخلاف محتدم، والنزاع قائم، ومركزنا كما هو لم نتقدم فيه شبراً - مع أنا واجهنا هذا الأمر منذ احتكاكنا بالمدينة الحديثة، وحرنا في تصرفاتنا فحينا ندرس كثيراً من المواد في مدارسنا بلغة أجنبية وحيناً تأخذنا العزة القومية فنحولها إلى العربية، والنقص كما هو والموقف كما هو
وفي التشريع تغير العالم في معاملاته، فأنتجت المدنية الحديثة أنواعاً من المعاملات عديدة، وأنواعاً من الجرائم جديدة، ونظماً في الحكم والقضاء، فأبى رجالنا إلا أن يقفوا حيث هم، أبوا أن يفتحوا أعينهم لأنواع الشركات إلا ما نص عليه في الكتب القديمة من شركة