مفاوضة ووجوه وعنان، وأبوا أن ينظروا إلى نظام الجمارك إلا ما ورد في كتب الفقه في باب العاشر، وأبوا أن ينظروا في جرائم الكيوف والاختلاس والتزوير إلا ما جاء في باب التعزير فكان من الزمن أن تركهم فيما هم فيه، وسلب من يدهم أوسع أبواب التشريع، وهي ما يتعلق بالمسائل المدنية والعقوبات واستند من قانون نابليون إذ أبى، بالعلماء أن يمدوه بالفقه أو لم يترك في يدهم إلا الأحوال الشخصية إلى حين
وكان موقفنا في الأخلاق موقفنا في اللغة والتشريع، فالمدنية الحديث كان لها من الأثر ما غير قيم الأخلاق، وقلب أوضاعها وطبعها بطابع جديد، ذلك أن أكبر أسس المدنية الحديثة وأهم أركانها الصناعة - ومن أجل هذا قومت الأخلاق من جديد على أساس الصناعة، ورتبت قائمة الأخلاق ترتيباً يتفق والصناعة، فخير الأخلاق النظام، والنظافة، والصدق في المعاملة، والمحافظة على الزمن، والاقتصاد وما إلى ذلك وجعلت هذه الصفات في المنزلة الأولى، ووضع للعمال نظم لحمايتها وترقية شؤونهم من نقابات وجمعيات، وقلبت القائمة التي وضعت في القرون الوسطى رأساً على عقب، فالحياء والتواضع والسماحة ونحوها قل أن تعد فضائل، وإذا سمح بعدِّها ففي ذيل القامة لأنها لا تتناسب مع أخلاق القوة وأخلاق الصناعة، فليس خير الصناع أشدهم حياء وأكثرهم تواضعاً، ولكن خيرهم أقواهم وأمهرهم، وأحفظهم على نظام، وأشدهم مراعاة لموعد وهكذا - وجاء العلم فخدم هذا النظر لأنه رقى الصناعات رقياً عظماً بفضل ما يقدمه لها كل يوم من مكتشف جديد، وبجانب هذا تحكم العلم في تقويم الأخلاق. فغير الأنظار القديمة وجعل المقياس سعادة الناس ورفاهيتهم في الحياة الدنيا، ولم يعبأ بالتقدير المأثور عن السلف، فنظر من جديد إلى الموسيقى والألعاب وسائر الفنون، وحكم بالحسن على ما كان يحكم عليه من قبل بالقبح، وعد كثيرا مما كان قبل إثماً وحراماً وجريمة محمدة وخيراً وفضيلة، ورأى أن ما في حياة القرون الوسطى من رهبنة واعتكاف في الأديرة والتكايا ونحو ذلك، عيشة كسل وخمول لا تتفق وخير الناس (فمن لم يعمل لا يأكل) جرى كل هذا والمسلمون حائرون بين تقاليدهم القديمة وما تقدمه المدنية الحديثة من نظر جديد - والزمن لا ينتظرهم في حل الإشكال واختيار أحد الطريقين، فلما ترددوا جرفهم طوعاً أو كرهاً من غير أن ينظرهم حتى يبتوا فيما يتفق وأخلاق المدنية الحديثة مع تقاليدهمم ودينهم وتاريخهم وما لا يتفق.